بدون تنميق الكلام، تطوير التعليم العالي في الأردن يحتاج لمدخل يختلف تماماً عن ما يتم ممارستة حالياً في القطاعين سواء العام أم الخاص. بصراحة ووضوح، أركان عملية تطوير التعليم العالي لا تزال غير متوفرة بشكل واضح وما توفر منها لا يتم ممارسته بطريقة مهنية عالية المستوى على أرض الواقع من حيث تطبيق الحاكمية المؤسسية الرصينة والتخطيط الإستراتيجي الفعّال وضبط الجودة والشراكات مع سوق العمل على غرار ما يجري في الدول المتقدمة التي حققت رفاهية لشعوبها.
فتطوير التعليم العالي له عدة أركان التي تتطلب ممارستها فعلياً على أرض الواقع وليس التنظير بها فقط. أولاً، يحتاج تطوير التعليم العالي الى الممارسة الفعلية الموثقة للحاكمية المؤسسية الرصينة بحيث تبدأ وتنتهي بالتركيز على عناصر الكفاءة وآلية إتخاذ القرارات من خلال مجالس فعلية، وليس شكلية، يتم تشكيلها وفقاً لمعايير واضحة المعالم وأهمها ان أي شخص في أي مجلس قادراً على القيام بالدور المناط به بدون لغة المصالح المتبادلة التي يتم ممارستها في العديد من الحالات!
ثانياً، تفعيل وتطبيق منظمومة القيم والاخلاق في ممارسة العمل الجامعي وترسيخها كمنهج عمل يومي ومستمر بكل شفافية ووضوح وذلك من خلال الافصاح عن آلية إتخاذ القرارات وكيفية التدقيق عليها مع الأخذ بنظر الإعتبار أسس النزاهة والبعد الوطني لمؤسسات التعليم العالي. ثالثاً، وجود رؤية إستراتيجية واضحة وثاقبة لقيادة المؤسسة الأكاديمية (أي مؤسسة) بناءً على دراية ومعرفة وممارسة فعلية للتخطيط الإستراتيجي الفعّال الذي يأخد بعين الإعتبار تطورات العصر وأهمها التكنولوجيا الحديثة ومتطلبات سوق العمل المحلية والإقليمية والدولية التي تساهم في تحقيق التنمية المستدامة. رابعاً، الإنطلاق من معايير المهارات والقدرات المطلوبة في سوق العمل في عملية تصميم ومراجعة كافة البرامج الأكاديمية والتطبيقية والتقنية الموجودة بحيث يتم إجراء نقلة نوعية في جودة الخريج ويكون جاهزاً لسوق العمل بشكل فوري. خامساً، إجراء تغيير جذري وفوري بطرائق وأساليب التعليم الجامعي والإنتقال من الطرائق والاساليب التقليدية التي تعتمد على التلقين والذاكرة الى الأساليب التي تركز على طرائق التفكير والتحليل وإيجاد الحلول الواقعية للمشكلات بالإستناد الى معادلة النظرية والتطبيق وليس النظرية وحدها. سادساً، التخلي عن مفهموم الحرم الجامعي الذي يركز على بقاء العلم والمعرفة داخل أسوار الجامعة لصالح الإنطلاق في فضاءات حاضنات الأعمال بكافة أنواعها وتخصصاتها وأينما وجدت بحيث تكون الجامعة منارات تنمية وتطوير على أي بقعة من بقاع الوطن الأردني ولتساهم في إيجاد حلول لمشكلات إجتماعية وإقتصادية مزمنة طال إنتظارها وليس التقوقع داخل بقعة واحدة والتمترس حول العقلية الأكاديمية التنظيرية فقط. ثامناً، التوجه وبشكل مباشر للحصول على شهادات الإعتماد وضبط الجودة الدولية العريقة والتي ترتكز في أساس عملها على الجودة والمهارات والقدرات التي يجب أن يحصل عليها الخريج من كل برنامج أكاديمي أو تقني أو تطبيقي بناءً على متطلبات سوق العمل ومساهمات البرامج العلمية والتطبيقية في التنمية الإجتماعية والإقتصادية المنشودة. ما يدعو للفخر أن هناك عدة جامعات وطنية إستطاعت بعض الكليات فيها الحصول فعلياً على شهادات دولية في عدة تخصصات مثل الطب والهندسة، على سبيل المثال لا الحصر، وهي بمستوى الكليات المناظرة لها على المستوى الدولي. تاسعاً، ترسيخ ثقافة البحث العلمي التطبيقي المرتبط بإحتياجات التنمية الوطنية مع الأخذ بنظر الإعتبار التطورات العالمية التي يمّرُ فيها كل تخصص بحيث تكون جامعاتنا لديها جسور مع العالم الخارجي في البحث العلمي. عاشراً، تحسين رواتب وأمتيازات أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات والعمل على دعم إستقرارهم الوظيفي بدلاً من التسلّط عليهم تارةً والإنقضاض على مكافأة نهاية الخدمة لهم تارةً أخرى من خلال التفنن في فرض الضرائب غير العادلة عليهم!
ولتحقيق ما سبق، لا بدّ من العمل على خلق شراكات حقيقية مع سوق العمل الوطني والإقليمي بحيث يتم التواصل مع خريجي الجامعة، وعلى مستولى كل كلية فيها، والتعرف المستمر على المهارات والكفاءات المطلوبة لتكون مدخلات لتطوير البرامج الأكاديمية والتقنية والتطبيقية وفقاً لمتطلبات سوق العمل الواعدة. أضف الى ذلك، يجب تنفيذ الرؤية الإستراتيجية للمؤسسات الأكاديمية من خلال ممارسة القيادة، وليس الإدارة، بحيث يكون هناك إستقرار في العمل المؤسسي من خلال الكفاءات وليس الولاءات والعمل الفوري على تهيئة الجيل الثاني من القيادات الأكاديمية الذين مارسوا فعلياً القيادة وتنفيذ التخطيط الإستراتيجي على أرض الواقع ووفقاً لنتائج ملموسة ومُعلنة بكل شفافية ووضوح. التركيز على المنافسة بين الجامعات الوطنية، فالمنافسة ليس بقدرة كل جامعة على إستقطاب الطلبة وإنما تكمن في قدرة كل جامعة، مهما كانت طبيعة عملها، على الحصول على شهادات الجودة الدولية ومعدلات التوظيف لخريجي الجامعة في أسواق العمل والقدرة على دعم الأفكار والمشاريع الريادية وغيرها. وأخيراً، لا بدّ من التركيز على الإستقلالية المٌقننة للجامعات بحيث يكون دور المؤسسات المعنية في قطاع التعليم العالي على مستوى الوطن يرتكز على الجوانب التشريعية والرقابية والتصحيحية لضمان تطبيق الحاكمية المؤسسية في الجامعات وتقييم الأداء وفقاً لمعايير واضحة المعالم.
قد يتبادر الى الذهن ان هذه النقاط هي نظرية وتدخل من باب التنظير وهناك صعوبة في تطبيقها. المؤشرات على أرض الواقع تقول أن هناك عدة جامعات وطنية إستطاعت تحقيق نجاحات ملموسة وتجاوزت المفهوم التقليدي في التعليم العالي ورسّخت واقعاً جديداً يمكن البناء عليه لانه ساهم ويساهم في التنمية الإقتصادية والإجتماعية في الأردن. فالجامعة الألمانية الأردنية تشكل أنموذجاً في التعليم الجامعي الأكاديمي والتطبيقي وتعمل على نقل وأستنساخ النموذج الألماني، الذي يُعد من أفضل النماذج في العالم، في التعليم العالي في الأردن، لا بل أصبح للجامعة الألمانية الأردنية بُعداً دولياً نفتخر به. وهناك جامعات وطنية أخرى حققت نجاحات مشهود لها.
أما فيما يتعلق بعملية إصلاح التعليم العالي في الأردن وعلى المستوى الوطني، فإن المبادرة التي طرحها عطوفة الأستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي، رئيس جامعة البلقاء التطبيقية، والتي تمثل مشروع مقترح لتطوير المسارات التقنية والمهنية لتحقيق التكامل الوطني في قطاع التعليم العالي الهادفة لتحقيق التنمية المستدامة من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فهي تستحق الوقوف عندها مطولاً والبناء عليها بشكل جدّي. فمشروع الأستاذ الدكتور عبدالله الزعبي ينسجم تماماً مع الإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية ويتجاوز حدود جامعة البلقاء التطبيقية التي تمتد على تراب الأردن العزيز لتشكل نقلة نوعية في عملية إصلاح التعليم العالي بشكل جوهري على المستوى الوطني. فالمشروع المقترح أعاد رؤية التعليم العالي الى مسارها الصحيح ويقدّم أنموذجاً فريداً في الأردن للمساهمة الفعالة في حل المشكلات الإجتماعية والأقتصادية التي نعاني منها.
الأمر الآخر المهم ان النقاش مع عطوفة الدكتور عبدالله الزعبي حول هذا المشروع يؤشر بوضوح تام على نضوج المشروع لدية ووجود رؤية واضحة وثاقبة حول القدرة على التنفيذ على أرض الواقع في حال تبنيّ هذا المشروع على المستوى الوطني. فهذه المبادرة تستحق كل الإهتمام كونها تشكّل نقلة نوعية في عملية إصلاح التعليم العالي وتنسجم نصاً وروحاً مع التوجهات الملكية السامية التي تدعو الجامعات الى القيام بدورها المطلوب في سوق العمل وتحقيق التنمية المنشودة. حسب معلوماتي، لم يتم التقدم بمشروع إصلاحي وتطويري للتعليم العالي بنفس الشمولية ووضوح الرؤية الإستراتيجية والقابلية للتنفيذ على أرض الواقع يضاهي مشروع الدكتور عبدالله الزعبي كمشروع وطني بإمتياز. فهل يمكن أن يتلقى هذا المشروع الدعم الذي يستحقه وعلى المستوى الوطني لتنفيذه على أرض الواقع والمساهمة في الجهد الوطني البنّاء ويخدم الأجيال القادمة؟ وعليه، نتمنّى ان يتم البدء فعلياً بتطوير التعليم العالي والبناء على الإنجازات التي تحققت من أجل مستوى حياة أفضل لبلدنا العزيز.