ثمة علاقة سببية، تبدو أكيدة وواضحة، بين كُلٍّ من ريادة الأعمال والنمو الاقتصادي المتعدد الأقطاب من جهة، والتنمية المستدامة والحدّ من الفقر من جهة أخرى، فالمشاريع الريادية، الصغيرة والمتوسطة، في عالم المقاولات؛ غالباً ما تشكِّل العمود الفقري للقطاع الخاص في البلدان النامية على وجه الخصوص. بَيْدَ أنَّ العديد من تلك البلدان لم تكن قادرةً على خلق بيئة مواتية لتلك الأعمال الريادية الناشئة والحفاظ على توازن اقتصادي مع نظيراتها الكبرى لضمان تطورها ونموّها وتوطنها في البيئة المحلية.
فقد شكَّلت الخبرات والتجارب الاقتصادية المتعلقة بالقطاع الريادي في كثير من الدول المتقدمة نماذج باهرة تجاوزت عتبات النجاح إلى آفاق الإلهام، وخطَّت لنفسها مكانة مجتمعية خاصة كان لها حضورها، وتأثيرها البالغ على الأنماط المعيشية بالمجتمع، فردياً وجماعياً؛ إذ شكَّلت نواة تطوير كثير من الاقتصادات، وأصبحت نماذج ملهمة لرجال الأعمال والمستثمرين؛ ولاسيما مع مردودها الاقتصادي الكبير.
ومن ثمَّ تُعتَبر ريادة الأعمال من أشهر هذه التجارب النموذجية الناجحة في عالم المال والأعمال، حتى أصبح هذا المصطلح، الحديث نسبياً، من أبرز المصطلحات ذات المردود الاقتصادي والإداري والاجتماعي والتنموي، المستخدمة دولياً خلال السنوات القليلة الماضية، تنظيراً وتطبيقاً؛ نظراً لما حقَّقه هذا المجال الابتكاري الواعد من مردودات إيجابية؛ اقتصادية وتنموية عديدة، في الكثير من البلدان على مستوى العالم.
في مفهوم ريادة الأعمال.. جوهر الحافزية والابتكار
اصطلاحياً؛ نشأ هذا المفهوم بداية مقترناً بالأعمال التجارية والمشروعات الحديثة التي رأت النور في القرن التاسع عشر الميلادي في القارة الأوروبية، وساعد بفاعلية كبيرة في إحداث نقلةٍ نوعيَّة في الحياة الاقتصادية للمجتمعات هناك، ما كان له أثر واضح في تطوير الفكر الاقتصادي؛ حيث تمكَّنت الدول الأوروبية من خلال الاستثمار في الأفكار الرياديّة الحديثة المتعلقة به، من تحقيق نهضة صناعية كبرى ربما لا تقلّ أهمية عن بواكير الثورة الصناعية في القارة.
وإذا كانت ريادة الأعمال في أبسط تعريفاتها هي: إنشاء مشروع أو شركة أو مؤسسة (مقاولة بالمعنى الأشمل)، خاصة تلك التي تُقدِّم خدمة أو سلعة جديدة للمجتمع، تنطوي على أفكار مبتكرة وذات جدوى اقتصادية، فإنَّ الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ، بل يمتدّ ليشمل فنّ إدارة هذا المشروع وتطويره، حتى يُصبح المشروع مؤسسة فاعلة ذات دور مجتمعي بنّاء.
وهناك فرق بين كلٍ من “ريادة الأعمال”، و”إدارة الأعمال”؛ فالأولى تعني خلق أسواق جديدة بأفكار مبتكرة، وجذب عملاء جدد، أو بمعنى آخر خلق المنتج، وإعادة توجيه المستهلك، ومعرفة كيفية تسويقه، وإقناع الآخرين به.
أما الثانية، فهي محدودة في إدارة عمل تقليدي قائم، بما أنها تقتصر على توزيع المهام والأعمال المختلفة، والتخطيط، وفهم احتياجات السوق لمنتجات معينة أو خدمات موجودة ومعروفة بالفعل.
هذا مع التأكيد، جوهرياً، على أنّ ريادة الأعمال تنطوي على بعض المخاطر، بالنظر لما تحتويه على عنصري المغامرة والتوقع، والتي ينبغي التحسُّب لها، لكونها تتطلب البحث عن موارد جديدة، والاستثمار فيها، فيما يجب أن تتسم هذه الموارد بميزات تنافسية عالية مقارنة بغيرها، يمكنها تلبية احتياجات العملاء بشكل كامل مع تحقيقها، في الوقت ذاته، أرباحاً مرضية لأصحاب العمل.
ريادة الأعمال.. دعم الأداء الاقتصادي والسلم الاجتماعي
عربياً؛ تعتبر ريادة الأعمال بمثابة الفردوس المفقود في مجتمعاتنا المعاصرة، على الرغم من كونها الحل الأمثل للكثير من إشكالياتنا العربية المتجذرة؛ كالبطالة والفقر والركود الاقتصادي، وتراجع مستويات التنمية، وضعف استدامتها.
فمع تزايد حجم القوى العاملة، ولاسيما من الأجيال الشابة، وتناقص معدلات فرص التوظيف، خاصة في القطاعات الحكومية، تبدو الحاجة مُلِحَّةً لإنشاء مشاريع جديدة تستوعب هذا الكمَّ الهائل من الشباب والكفاءات المتُعَطِّلَةِ، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال الحلول المبتكرة التي تقدمها ريادة الأعمال. فمهما كانت الدولة غنية أو ذات موارد إنتاجية، فلن تستطيع خلق وتوفير فرص عمل واعدة للشباب، وهنا يبرز الدور الحاسم لروّاد الأعمال في علاج هذه الفجوة التنموية بكفاءة وفاعلية.
فريادة الأعمال، بجوانبها الابتكارية غير التقليدية، تحفظ الأيدي العاملة الماهرة في الدول النامية، وتُجَنِّبُها الوقوع في براثن نزيف العقول وهجرة الكفاءات العلمية والمهنية إلى الخارج. فالأيدي العاملة أو الموارد البشرية هي أكبر وأهم رأس مال اقتصادي في أي دولة كانت، لكنَّ نقصَ المشاريع الاستثمارية وفرص العمل المناسبة تدفع أصحاب الخبرات والمواهب إلى الهجرة بحثاً عن واقع أكثر رحابة ومستقبل أكثر أملاً؛ الأمر الذي ينقل ثمرات التنمية من دول الموطن إلى دول المهجر.
إن انعدام ريادة الأعمال يضرّ كثيراً باقتصادات الدول، ويضع على عاتقها عبئاً كبيراً، بسبب عدم تنويع مصادر الإنتاج، وتزايد معدلات البطالة، وبالتالي يُصبح اقتصاد الدولة ضعيفاً ومستنزفاً، بسبب استنفاد موارده الأساسية في غير موضعها، ففي واقعنا المعاصر ينهض الجزء الأعظم من اقتصادات الدول على المشاريع الريادية؛ الصغيرة والمتوسطة.
وعلى الجانب الآخر، تساهم ريادة الأعمال، في حواضنها الملائمة، في تقدُّم الدول والارتقاء بها؛ من خلال خلق أسواق جديدة، وبالتالي جذب مستثمرين جدد، وتنشيط حركة التبادل التجاري والاقتصادي، بالإضافة إلى دورها في جَسْر الهُوَّة الفئوية داخل المجتمعات بشكل يقضي على إشكاليات التهميش والتمييز الهوياتي.
كما توفر ريادة الأعمال ميزةً تنافسية كبيرة في الأسواق تصبّ لصالح المستهلك والاستهلاك عامة. فمع ظهور منتجات جديدة وأسواق متنوعة، تتعدد الاختيارات أمام المستهلكين، وبالتالي ينتفي جانب الاحتكار والممارسات المخلة واحتمالات الفساد، إذ تسعى جميع الشركات لإرضاء العملاء وجذبهم من خلال تطوير منتجاتها بشكل مستمر، والسعي لتقديم أفضل جودة ممكنة بأقل سعر، بالإضافة للعروض الترويجية المختلفة، بالتالي يُصبح المستهلك هو المستفيد الأول في هذه الحالة.
ونظراً للدور الحيوي والمؤثر لريادة الأعمال؛ ومساهمتها في نمو المؤسسات وتوسعها، وحصولها على موارد مالية ومادية، جديدة ومبتكرة، فقد أصبح ذلك القطاع التنموي الواعد أحد الخيارات المهمة التي يلجأ إليها الأفراد والمؤسسات؛ حيث زادت أهميتها وجدواها الاقتصادية مع التقدم التكنولوجي، وسياقات العولمة، وتزايد ممارسات الخصخصة، بما كان له أكبر الأثر في توسيع تنافسية بيئة الأعمال.
ريادة الأعمال.. تنظيم الأفكار وتنمية الإبداع
ريادة الأعمال، حال نجاحها في تحقيق أهدافها، تؤدي عدة أدوار مهمة في القطاعات الاقتصادية والمؤسسيّة المختلفة؛ حيث تساهم في العمل على نهوض تلك القطاعات بشكل مستمر، وتزويد سوق العمل بأفكار مبتكرة وأعمال جديدة تساهم في تطويره، وجعله يواكب العولمة الاقتصادية، والتكنولوجيا الحديثة، واستخدام آلات ومعدات حديثة في سوق العمل المحلي، ما يقود في الأخير إلى توطين التنمية ومن ثم استدامتها.
ولريادة الأعمال دورها الفاعل في تنمية الإبداع وإزكاء روح الابتكار؛ إذ تعتمد على هذا العنصر المجدد لتقديم أفكار حداثية؛ جريئة وطموحة، تُساهم بابتكار أساليب استثمار جديدة ونَهْجِ طُرُقٍ وأعمالٍ لم ينتهجها أو يتعامل بها أحدٌ من قبلُ، وقد تكون موجهةً لفئة محددة، أو إلى جميع الأفراد داخل المجتمع.
ومما يميِّز روَّاد الأعمال اعتمادهم على التفكير المنظَّم، والمهارات المكتَسبة، وانطلاقهم من خطة مدروسة، بالإضافة إلى تفعيلهم لمهارات التواصل مع الآخرين، وتطبيقها في تعاملاتهم الشخصية ومشروعاتهم الوليدة، ما يمكّنهم من تجاوز العقبات التي تواجههم بطريقة سليمة تُؤتِي ثمارها فيما بعد لتحقيق غاياتهم وأهدافهم.
إنّ ريادة الأعمال ليست مصطلحاً تعميميّاً يمكن أن يُطلق على أيّ نجاح عادي أو بسيط، وإنما هو مصطلح يعني الحرص على ديمومة النجاح، وتحقيق أقصى درجات التفوق المطلوب في الحفاظ على مستوى الاستقرار داخل المؤسسة خلال دوراتها الاستثمارية، والانتقال بالمؤسسة من طَوْر الاستقرار إلى طَوْر التوسع والانتشار.
ورغم الأهمية الكبيرة لريادة الأعمال، وتأثيرها الواسع في حياة الأفراد والبيئات الاجتماعية المختلفة، فلا تزال المجتمعات العربية تعاني من ضعف الإقبال على هذه الأفكار المبدِعَة الخلَّاقة؛ فالعقل الجمعي العربي، في غالبه، لا يزال ينظر إلى المغامرة باعتبارها مقامرةً غير مأمونة النتائج، ومن ثَمَّ يسودُ البحث عن الاستقرار المادي والنفسي، ولو كانا محدودين، في وظائف تقليدية تجنُّباً للمخاطرة التي تنطوي عليها ريادة الأعمال.
وحتى تتغير تلك الرؤية المعَرْقِلَة والمعَطِّلَة عن الولوج العربي الفاعل في حقل ريادة الأعمال؛ فالأمر يتطلب استراتيجية مُرَكَّبَةً تقوم على مفردات الصبر والقيادة، والمخاطرة، وحسن التكوين والتدبير، ما تحاول الكثير من الحكومات العربية الاضطلاع به في الآونة الأخيرة، لتدارك العجز الحاصل على هذا الصعيد الحيوي بتشجيع الشباب على الاستثمار، وإنشاء المشاريع الصغيرة من خلال تقديم التدابير القانونية والتسهيلات الإجرائية والمادية اللازمة.