ما بين الفرح واليأس، يتقلب الشعب الأردني. هذا المزاج البندولي صار ظاهرة واضحةً لا تخفى على عين الناظر، حتى ولو بسرعة. وهذا التقلب السريع في المزاج، صار يتحول مع الوقت إلى علاقة بين شبه اليأس على أحسن الأحوال إلى القنوط والسوداوية أحياناً أخرى.
وما هي هذه الأسباب؟ وأهمها هو أن درجة التكافل الاجتماعي في الأردن بدأت تتآكل. فالكل يأكل من قصعته، ولا يريد أن يشاركه أحد فيها. والغني يخشى على ماله فيدّعي بتغير الأحوال قلة المتاح من النعمة، ومتوسط الدخل لا يقدر أمام مسؤولياته المتزايدة أن يوفق بين حاجاته وإمكاناته فيستحي خجلاً من عيون قد تلاحقه وتطالبه إلحافاً. وأما الفقير فله الله الذي لا ملجأ له سواه.
ولأننا شعب ما يزال يؤمن بالنقد (أو الكاش)، أو برصيد متاح في مصرف، فإن نقص السيولة لا يعوض بالثراء في أملاك صارت عبئاً أكثر منها مصدر دخل. فكثرت الشيكات المرتجعة، وتزايدت الإعلانات عن المطلوبين للعدالة في قضايا مالية، وقصر المستأجرون عن دفع إيجاراتهم، والمشترون عن سداد كمبيالاتهم، والغارمون عن سداد ديونهم. والحكومة صارت مثلهم تؤجل الدفع وتلاحق المدينين لها مستخدمة وسائل لو دققت المحكمة الدستورية فيها لاعتبرت جزءا منها مخالفاً للدستور.
وهربنا من العالم الواقعي حيث المشاكل إلى العالم الافتراضي حيث الأحلام والأمنيات. ألم تـكتب قصص ألف ليلة وليلة وتنتشر إلا في زمان ضاقت الدنيا على أهلها بما رحُبت، وسدت فيها أمامهم أبواب الرزق؟ يريد الناس في ظلمة الحاجة أن يصبحوا السندباد البحري وهم جلوس، وأن يكونوا "مخاويين" الجن الذي يخيفهم في البداية ثم يفتح لهم أبواب الرزق. ولا مانع أن يكونوا علي بابا الذي اغتنى من كلمة "افتح يا سمسم".
وهكذا تحولنا بالتدريج إلى مدينة النحاس التي اعتبرها واحدة من أجمل قصص ألف ليلة وليلة. وبطل القصة اقبال الذي تغرق سفينته ولكنه ينجو ومعه نفر قليل من ملاحيه إلى شاطئ في مكان مجهول. ويجدون مدينة فيعتلون سورها الشاهق، وعندما يصلون أعلى السور تنادي عليهم بنات حسان كحوريات الجنة، واقفات بجانب بحيرة مياهها لامعة لازوردية ويقلن للبحارة اقفزوا إلينا. ويقفز بعضهم تحت إغواء الصبايا الحسان، ليكتشف أن بحيرة الماء التي أراد الغوص فيها لم تكن إلا سرابا فيتهشم المسكين.
أما بطل القصة اقبال (أو موسى في الرواية الأصلية)، فيدرك خداع النسوة ويأبى أن يقفز. ويؤثر بدلاً عن ذلك أن ينزل إلى ساحة المدينة من فوق السور بروية وحذر. ولما وصل إلى الأسفل اختفت الصبايا الحسان لأنهن كن جزءاً من وهم الناظر الخارج من السفينة الغارقة والطالب ولو قشة يتعلق بها.
ويرى اقبال وأعوانه الناس في المدينة وقوفاً، هذا يصب شراب السوس من إبريقه في الكأس وقد تجمد السوس قبل أن يصل إلى الكأس. وذلك رجل واقع على الأرض ولكنه بقي صورة ساكنة وكأن شيئا ما قد جمّده تمثالاً عند تلك الحركة. كل الناس في المدينة ساكنون وقد تحولوا في لحظة إلى مجرد تماثيل. وحتى باعة الجواهر تركوا دررهم مكشوفة للناظرين، والتجار أهملوا أموالهم وبضاعتهم غير مبالين.
ويسأل اقبال شخصاً في المدينة كان يسعى. فيخبره أن نفراً من الجن قد غضب على المدينة، والقى عليها نظرة من عينيه جمدت المدينة وساكنيها وشلت الحركة فيها.
المدينة المتجمدة في لحظة معينة، والناس فيها كأنهم أعجاز نخل خاوية صامتة، لا يتحركون. فيهم الروح ولكن تغيب عنهم الهمة والحركة. لقد تبين أنهم تحولوا إلى تماثيل نحاسية. وبالطبع فإن لذلك الطلسم السحري تعويذة لا بد أن يحصل عليها اقبال لكي يعتق الناس. ولكي يفعل ذلك فلا بد له أن يقتل الجان الذي كان السبب وراء الحالة النحاسية.
ونحن صرنا أشبه بمدينة النحاس المسحورة. فهل من اقبال يفك الطلسم.
الغد