الوطن والمُواطَنة والوطنيّة!! 2/2
أ.د عمر الحضرمي
11-12-2018 12:49 AM
في العجالة السابقة، دُرْنا حول «المصطلح» فقاربناه نظرياً، وتناولناه من حيث إندراجه تحت سقوف المعاني التي تفرضها اللغة ويذهب إليها الفكران السياسي والاجتماعي. ولقينا في السياق مذكرات تنتقل من مبدأ إلى مبدأ، ومن قيمة إلى قيمة، وكلها متحدّرة من مصدر ثقافي واخلاقي، ومن مُثُل ومرتكزات عقدية ودينية وفكرّية تكاد تكون متلاصقة.
في واقع الأمر، وجدنا أنفسنا نلامس فترات زمنية موغلة في القدم، إلا أننا وجدنا أيضاً أن شعوب الدنيا، في أغلبها المتحضر، تتحدث عن مشتقات كثيرة من الأصول التي تصدر عن جذور تُمثل أسس الدولة والكيانات السياسية وأطراف المجتمع، وتعظّم مجموعة من المعطيات من مِثْل؛ الديمقراطية، والمشاركة السياسية، والتشاركية السياسية، والانتخابات، ومجالس المدن وتجمعات القرى، وحقوق الإنسان، والعدالة، وحُسْن توزيع القوى السلطوية، والإصلاح، والرقابة، والمساءلة، والشفافيّة، وهذه كلها نراها في مستوعب واحد هو «الدولة» الراشدة، أو «الحكم» الصالح.
وبالرغم من حركة التحوّل الكبيرة والواسعة هذه، إلا أن هناك عدداً من الدول لا تزال تعاني من جروح واجتراحات، وتقاسي من الضعف والنَّصَب، ومن هذه الدول ما نراه بين الكثير من الدول العربيّة، هذه الدول التي تقوم فيها حكومات ملأ حوافها ومساكنها رعب يكاد يكون قاتلاً، وخوفاً يتجاوز حد المنطق وحد المقبول ووصل إلى مستويات اللانسانيّة.
في أجزاء عربية ليست بالقليلة، وضعنا دساتير وقوانين وتعليمات، قلنا: إنها قد جاءت لتنظيم حياة البشر، إلا أنّ ما حدث هو ما لا يُعْقَل، إذ ظل الدستور حبراً جامداً على ورق أصم، وبقيت معطيات التطبيق ملتصقة بإرادة الحاكم ورغباته وذاتيّته وبطانته، حتى أن «الفساد» صار يسمى «فهلوة» والسرقة صارت تسمى «شطارة». وأصبحت الحكومة هي المتحكّمة بكل القرارات الأمنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وصارت هي وحدها مصدر السلطات، وغدا ممنوعاً على المواطن المشاركة في اتخاذ القرارات، بل عليه، فقط، أن يطيعها وإنْ كان احياناً كثيرة لا يطيقها.
وهنا لا بد من الإعتراف بأنّ تركيبة الدول العربية، الواردة الإشارة إليها، داخلة في ارتجاج بنائي، سواء ما كانت خيوطه متقاطعة بين الدولة والحكومة أم بين الحكومة والمواطنين، ولذا فإن مشاهد «الزعيم الملهم» أو «القائد الفذ» هي بمثابة المطلق، حيث يكون هذا الزعيم أو ذاك القائد هو الدولة وهو الحكومة وهو القانون وهو الاستثناء من كل تبعية ومسؤولية، وهذا سَوْقٌ نحو «الأنا» التي تُلْغي المواطن كشريك، وبالتالي تفقد المصطلحات الثلاثة؛ الوطن والمُواطَنة والوطنيّة، معانيها أو مدلولاتها أو قيمها. كما تصبح مقولة: «إن الدولة لن تكون عظيمة إلاّ إذا كان مواطنوها عظماء»، كلاماً هُرُاءاً، ويصبح الوطن عبارة عن مزرعة تُربَّى فيها البهائم، وتصبح المُواطَنة سُكْنى للأقنان في الأقنان، وتغدو الوطنية علاقة مقطوعة ليس لها وجود، لأن الولاء والانتماء قد اندثرا بعد أن ابتعدت مظاهر العزّة والكرامة، فأصبح المواطن عبارة عن إنسان مهزوم من داخله ومن خارجه، يحمل على ظهره متاعة ويرتحل من أرض إلى أرض دون تردد لأن كل بقاع الدنيا أصبحت عنده سواء.
الوطنية العربية، الناقصة اصلاً، قد تقزّمت، وشُلّت أطرافُها، بعد أن تخلّت الدولة عن مواطنيها في أزماتهم، فأكلت حقوقهم، وطالبتهم بالواجبات، ونازعتهم في حاجاتهم، فارتهن القانون لسلطة الحكومة والنظام والقائد، وعجزت الدولة عن تأدية ما أوكلت به.
إن الشعور بالضياع والتخلف والانهيار الذي يسيطر على المواطن في عدد من المجتمعات العربيّة، قد دفع بعضاً من المواطنين إلى الانحراف نحو التطرف، وذلك نتيجة عدم تحقق مبدأ المُواطَنة ومدنيّة الدولة وديمقراطيتها كممارسة حقيقيّة، وبعد أن تم اغتصاب النظام السياسي، الأمر الذي أضاع فرصاً عديدة لاحترام المؤسسات التي كان عليها أن تحمي المواطن، وأن تفتح له باب المشاركة على مصراعيه.
وبالتالي هل يمكن أن نستعيد مشروعنا النهضوي بعد أن غاب كل هذه السنين؟ وهل يمكن أن تُزال الحواجز بين السلطة وبين الناس، وأن يصبحا شريكين في العملية البنائية للدولة؟ الله أعلم!!
ohhadrami@hotmail.com
الرأي