الرد المباشر على وثيقة الأولويات الحكومية الأخيرة، أنها ستذهب في الطريق الذي ذهبت اليه العديد من الوثائق الحكومية السابقة أي النسيان؛ فبعد عدة أشهر لن يتذكرها أحد كما حدث مع خطة التحفيز الاقتصادي وكما حدث مع "رؤية الأردن 2015 - 2025 " وغيرهما؛ فالناس والنخب افتقدوا الثقة بالوثائق الاستشرافية والتخطيطية الرسمية وغيرها، ولكن هذه النتيجة ليست حتمية، وما تزال الفرصة ممكنة لإحداث اختراق واقعي اذا ما تم انزال الأفكار التي جاءت بها وثيقة الاولويات الى الأرض، وتم ربطها بمنهجية واضحة للتنفيذ، وقبل كل ذلك تطوير نظام وطني للمتابعة والتقييم يتمتع بشفافية عالية ومؤشرات قياسية ونظام مساءلة.
من المعلوم أن العقل التخطيطي المركزي للدولة غير واضح الملامح وبات يفتقد القدرة على تحديد المسؤوليات، ولذلك مبررات منطقية واضحة؛ أبرزها أن العديد من الوثائق التخطيطية لم تكن في بعض جوانبها واقعية ضمن حسابات الكلف والموارد، وافتقدت أحيانا لخطط تنفيذية ولنظم متابعة وتقييم علاوة على افتقاد خطط مكملة لإدارة المخاطر الأمر الذي اوجد دوما بيئة تبريرية تحيل الفشل الى حالات الطوارئ الاقليمية التي لم ولن تنتهي.
الحاجة اليوم الى بناء نظام متابعة وتقييم نوعي لا يعد مجرد ضرورة من أجل خطة الأولويات الحكومية بل أصبح مسألة مصيرية لإنقاذ الإدارة العامة، والاساس المتين لاستعادة كفاءة الدولة ومؤسساتها، قد يقول البعض إن الأطر التشريعية والاجراءات الرسمية الحالية توفر المطلوب، وسوف يتم إمطارنا على سبيل المثال بما توفره أنظمة اللوازم العامة والعطاءات الحكومية وما شابهها، بالطبع ليس هذا المطلوب بالمطلق.
إن تطوير نظام وطني للمتابعة والتقييم يعني إطار عمل وطني شاملا لكافة مؤسسات الدولة وانشطتها وخططها وبرامجها التنفيذية يوفر منهجية واضحة لمتابعة كافة التفاصيل حول أداء العام من أصغر بلدية في الشمال أو الجنوب وصولا الى أداء هيئة الطاقة الذرية على سبيل المثال، وهو حتما نظام مؤتمت ومحوسب يوفر معلومات دقيقة عن حجم التنفيذ وعن الأطر الزمنية وقادر على تحويل المدخلات والعمليات الى مؤشرات قياسية تؤشر على كفاءة الأداء.
هذا النظام يقودنا الى نموذج الادارة بالاهداف؛ بمعنى ان اطار المتابعة والتقييم يتطلب ان يرتبط بالأهداف العامة للدولة ولكل قطاع ولكل مؤسسة، بوضوح أكثر، هناك نحو مائة موقع عام وحكومي تشمل قيادات في الصف الثاني والثالث في المؤسسات العامة الاقتصادية والخدمية والسياسية تحتاج إلى مراجعة عميقة من منظور الكفاءة والتحديث، ويحتاج التصعيد لهذه المواقع الربط بالاهداف والاولويات ضمن نظام المتابعة والتقييم المفترض، الذي ينسحب على اداء المؤسسات واداء القيادات الادارية، فكل قطاع يرتبط بموقع قيادي وبأهداف واضحة تعكسها الموازنات العامة؛ لذا فلا مبرر لاستمرار هذه القيادات اذا فشلت في تحقيق هذه الاهداف، علينا ان نستدرك ان صيغ الموازنات وتصورنا التقليدي لاداء القيادات التكنوقراطية لوقت طويل ارتبط بمنهجية تصريف الاعمال اليومية وقليلا ما ربط بالاهداف.
هناك شواهد كثيرة تدل على أن التكنقراط الحكومي لحقه الضعف وتراجع الكفاءة خلال السنوات الأخيرة، ولم يعد يمثل أسنان ماكنة الدولة التي تدور بقوة من أجل التقدم، فإبداع الحلول غير التقليدية ليس مجرد شعار بل يحتاج الاعتراف بكل مصادر الضعف ووصفها بشكل علمي دقيق.
برزت شعارات سياسية عديدة خلال آخر عشر سنوات تحدثت عن ثورة إدارية بمختلف الألوان، وفي النوايا الحكومية كلام مرسل وجميل عن استعادة كفاءة الجهاز الحكومي، وللإنصاف حدثت خطوات في السنوات القليلة الماضية، لكنها لم تصل الى عمق الفجوة، اليوم تبرز اهمية التحول الى نموذج الادارة بالاهداف في ضوء نظام وطني للمتابعة والتقييم وهو الاساس المتين الذي يمكن ان تستند عليه خطة الاولويات ويمكن ان تدشن الطريق نحو استعادة الكفاءة العامة للدولة والنهضة المرجوة.
الغد