لم تفلح حادثة إسقاط الطائرة الروسية العسكرية (سوخوي 24) من قبل تركيا بتاريخ 24 نوفمبر 2015 فوق الأراضي السورية وبعد اختراقها للأجواء التركية بسبب الأحوال الجوية السيئة ووسط الأزمة السورية الدموية، ولا حتى قضية اغتيال السفير الروسي أندريه كارلوف في أنقرة أيضاً بتاريخ 19 ديسمبر 2016 من إدارة بوصلة العلاقات الروسية التركية وبالعكس إلى الأسوأ أو منعها من التوجه إلى مواصلة الإنجاز الوطني والقومي لكل منهما إلى الأمام.
إن الحدثين المأساويين السابقين (الطائرة والسفير) لم يؤثرا على صداقة البلدين الجارين عبر التاريخ، ويعتقد أن الحدث هو من صنع تيار أمريكي وسط الجيش التركي، والحدث الآخر وقفت خلفه جهة متطرفة تركية لها ارتباط خارجي بالداعية فتحي غولن القابع في أمريكا، ولا علاقة لنظام أردوغان لا من قريب ولا من بعيد بالحادثتين وهو ما ثبت لاحقاً والذي نحن بصدده الآن، وفي الوقت الذي أجرى فيه أردوغان مكالمة هاتفية مع بوتين فتح الأبواب لتبادل الزيارات الرئاسية بين أنقرة وموسكو. وتمكنت موسكو مبكراً في المقابل من اكتشاف انقلاب استهدفت الرئيس طيب رجب أردوغان ونظامه السياسي بواسطة تقنياتها اللوجستية المتوفرة لديها في قاعدة حميميم شمال سورية حسب صحيفة (رأي اليوم) الإلكترونية 19 July 2016. وحديث إعلامي عن أزمة تركية مالية ضربت العملة الوطنية ووصفها أردوغان نفسه بالانقلاب الاقتصادي عام 2018 الجاري، وهو مؤشر جاد على اهتمام أنقرة بترسيخ العلاقة الاقتصادية ومنها العسكرية مع موسكو.
وعودة لمشروع مادة الغاز الروسي لتركيا هذا العام 2018، ولأوروبا أيضاً، وهو الذي أعلن عنه رئيس الفدرالية الروسية فلاديمير بوتين واستقبله الرئيس التركي أردوغان بصدر رحب، وأوروبا أيضاً، وأطلق عليه (السيل الشمالي 2)، له ما سبقه، وما جاء بعده، وهو نصر روسي أولاً من دون أدنى شك، وجميعنا يتابع مسار الأزمة السورية الدموية وتطوراتها، كيف بدأت من وسط الربيع العربي؟ ولماذا؟ وكيف قاربت على الانتهاء بترجيح ملاحظ لصالح موسكو. وهنا علينا أن نتذكر بأن من أهم أسباب التوجه الروسي تجاه الأراضي السورية وأزمتها هو اقتصادي سياسي استراتيجي تمثل أولاً بمنع مد أنابيب الغاز القطرية عبر سوريا لتصل إلى أوروبا وتنافسها هناك، وهو الأمر الذي تطور إلى مواجهة حقيقة للحرب الباردة من الطرف الأمريكي رغم رفض روسيا لها بالمطلق، ولاحظنا كيف بدأت واشنطن بالبحث عن حلول للأزمة السورية على غرار العراق، وليبيا، واليمن، وعبر زج العرب بواسطة الخطة (ب) للاصدام مع دمشق، وهو الأمر الذي ما تزال آثاره السلبية حتى اليوم، وكيف تمكنت روسيا من استقطاب امريكا إلى (جنيف) لإنقاذ سوريا من ترسانتها الكيماوية الخطيرة عليها وعلى المنطقة عام 2014، وتمكنت أي روسيا أيضاً من محاربة الإرهاب الغازي لسوريا وبمساعدة (80) دولة، والذي تمثل بالعصابات الإرهابية المنشقة عن تنظيم القاعدة الأم مثل (داعش)، و(النصرة)، و(أحرار الشام)، وحتى الخارج منه من بلادها وبلاد السوفييت السابقة وعبر الإنترنت وبحجم (5000) إرهابي مقاتل تم تصفية نسبة عالية منهم ما عدا من لا زال يخضع للسيطرة الأمريكية وبحجم (55 كيلومتراً)، ونكرر دائماً بأن قدوم روسيا إلى دمشق بدعوة رسمية من نظامها السياسي، بينما هي أمريكا على الأرض السورية من دون دعوة، وسوريا ليست العراق بكل تأكيد. وقاربت الأزمة السورية على الانتهاء بنجاح موسكو وواشنطن ودول الإقليم المعنية مثل الأردن وتركيا بفرض مناطق خفض التصعيد تمهيداً لاستتباب الأمن، ولإعادة المهاجر السوري إلى وطنه سوريا الذي غادره لاجئاً مع بدايات الأزمة، وبعدها ثم فتح الحدود الأردنية السورية عبر معبر نصيب، وبدأ تدفق المواطنين من الجانبين الأردني والسوري بكثافة مع جنوح غلبة التدفق للجانب الأردني وهو أمر طبيعي، فالبنية التحتية السورية تحتاج لزمن وتمويل ملياري كبير بقصد إعادة البناء وفتح بيوت السوريين التي دمرتها الحرب.
وتمكنت روسيا من تجاوز الاستدارة الأوكرانية تجاه أمريكا والغرب اقتصادياً ولوجستياً بعد عدم تمكنها من اكتشاف حراك التيار البنديري الذي قاده يوري باراشينكا الوزير السابق في نظام يونوكوفيج ووصل من خلاله إلى السلطة في كييف، وعمّق الخلاف لاحقاً مع موسكو، سياسياً واقتصادياً، ولغوياً، ودينياً، وأدار ظهره بالكامل لروسيا بعدما رفض اتفاقية (مينسك 1 + 2) منذ عام 2014 الهادفة لاستتباب الأمن بين غرب وشرط أوكرانيا (دونيتسك) و(لوغانسك)، وبين كييف وموسكو من طرف آخر، وحتى بين واشنطن وموسكو وبالعكس إن صح التعبير، والقفز على العقوبات الأمريكية الموجهة لروسيا من دون مبرر مقنع، ومن دون وجه حق.
وبعدما لم يستطع يونوكوفيج البقاء في السلطة في (كييف) وهو المحسوب على موسكو، وغادر بلاده أوكرانياً من دون أن يكلف نفسه عناء طلب المساعدة العسكرية الروسية لنظامه لكي يبقى. فجاء تمرير الغاز الروسي عبر المشروع الجديد (شمال 2) ليس موجهاً ضد أحد كما صرح الرئيس بوتين مؤخراً للإعلام وبوجود الرئيس أردوغان على الأرض التركية ومن وسط (اسطانبول) فتجاوز المشروع الحاجة لتمرير الغاز الروسي من خلال الأراضي الأوكرانية مقابل مبلغ ملياري بينما أجواء الكارهية الأوكرانية السياسية صوب روسيا حاضرة وتترجم إلى أن تصبح شعبية في الجناح الغربي الأوكراني بكل أسف بين دولتين جارتين، في زمن تعتبر فيه روسيا أوكرانيا وشعبها دولة شقيقة وتاريخ مشترك.
يقول الخبير الروسي في مجال أمن الطاقة الوطنية أيغور يوشكوف بأن تركيا بين اكبر ثلاثة مشترين للغاز الروسي، وبعد ألمانيا وإيطاليا، ويتيح خطا الغاز البحريان (السيل الأزرق) و(السيل التركي) لروسيا تزويد تركيا بالغاز مباشرة من دون الحاجة لبلد عبور. ويذكر بأن قدرة الغاز الروسي تجاه أوروبا يقدر بـ(63 مليار متر مكعب) في السنة مقابل (31,5 مليار متر مكعب) تجاه تركيا. وحول مشروع الغاز الروسي لتركيا صرح نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتولموش للإعلام بأن بلاده تعد الأكثر ملاءمة لإيصال النفط أو الغاز الطبيعي الروسي من خلال أراضيها إلى الأسواق الأوروبية، وتزود روسيا تركيا بحوالي (55%) من احتياجاتها السنوية من الغاز.
ويتردد عبر الإعلام قول لبوتين مفاده بأن مشروع الغاز الروسي (السيل الشمالي 2) مهم لأوروبا، نظراً لزيادة الطلب على الغام من قبل المستهلكين الأوروبيين، ويتراجع احتياطي أوروبا من هذه المادة. وأشار إلى أن إمدادات شركة (غاز بروم) الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي نمت بنسبة (13%). ويستخدم المشروع أنبوب الغاز عبر قاع بحر البلطيق إلى أوروبا الغربية، وتشارك عدة شركات عالمية فيه مثل (غاز بروم) بنسبة (50%) و(كونسورتيوم) بنسبة (50%).
ويلقى المشروع معارضة من قبل أوكرانيا، وبولندا، ولاتفيا، وأمريكا اللواتي لهن مصالحهاً في توريد الغاز أيضاً إلى أوروبا على اعتبار أنها سوقاً اقتصاديةً مربحةً.
وهنا بإمكاننا أن نستنتج أيضاً بأن تركيا المحسوبة على حلف (الناتو) العسكري لا تشبه أوروبا، ولا امريكا، ولا حتى (الناتو) نفسه، ووقعت مؤخراً على اتفاقية عسكرية كبيرة مع موسكو تتضمن بيع صواريخ دفاعية تسمى (C 400) أثارت حفيظة امريكا التي لوحت بدورها بعقوبات ضد تركيا. وأوروبا التي كنا نعرفها جزءاً من معادلة (الناتو)، ومن التحالف الأمريكي بدأت تفصل بين العلاقة مع أمريكا ومصالحها الاقتصادية مع روسيا، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعيد الحرب الباردة خطوات بعيدة إلى الوراء إلى أن تتلاشى فعلاً، وهي الحرب التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، وكلنا يعرف بأن أمريكا حاربت في الساعات الأخيرة إلى جانب الاتحاد السوفيتي ضد أدولف هتلر وحلفائه، لكن انتصار السوفييت لم يرق للأمريكان، فقرروا مواجهة النصر بالتحدي، والأميركان لديهم نزعة التفوق، ولا يقبلون بظهور أية قوة تتوازن معهم، وهم الآن أي الأميركان يعيشون حساسية كبيرة جراء التوازن الروسي معهم بعد انهيار المنظومة السوفييتية. وبالفعل لا توجد دولة في العالم تستطيع رد أي عدوان خارجي نووي كبير لا سمح الله إلا روسيا، وقالها الرئيس بوتين قبل أيام لإعلام بدلاه بأنه إذا ما هوجمت روسيا من الخارج فإن أهلها سيقضون شهداء، وأما الجهة الغازية فأنها ستختنق وتنتهي.
ولموسكو أهداف متعددة في تركيا تتجاوز حجم التبادل التجاري الذي قفز على (400 مليار دولار)، وعينها على الورقة الكردية وأبعادها في الشأنين السوري والعراقي، وأمن منطقة الشرق الأوسط، وهي تقف مع الحوار بين النظام التركي والأكراد، كما تدعو للمحافظة على وحدة الأراضي التركية، والعراقية، والسورية، ولا تشجع طرفاً على آخر بعكس الطريقة الأمريكية مثلاً التي تدعم الأكراد عسكرياً وتماحك أنقرة لقربها أيضاً من السياسة الروسية. وتنظر موسكو إلى الأكراد باعتبارهم شريكاً مهماً في محاربة الإرهاب، وفي المقابل لكل دولة إقليمية تفسيراً خاصاً للإرهاب، فالأكراد المقاتلين أمام تركيا مصنفون بالإرهابيين، والمقاومة السورية حاملة السلاح تصنفها سوريا على أنها إرهابية، بينما تستهدف روسيا وتواجه إرهاب عصابات (داعش)، و(النصرة)، ويقابل هذه المعادلة فصل امريكي لإرهاب (داعش) عن إرهاب (النصرة)، على اعتبار أن النصرة ورقة أمريكية رابحة للتفاوض السياسي مع دمشق، وتصريح جديد لسيرجي لافروف وزير خارجية روسيا بتاريخ 24 تشرين الثاني الجاري يتهم فيه أمريكا باستخدام داعش لإسقاط نظام الأسد وبعد الطلب من موسكو إخراج إيران من سوريا، وتعزف على ورقة (داعش) أيضاً في أماكن أخرى.
وتبقى الورقة الروسية الاقتصادية في أوروبا ناجحة وهادفة عبر ألمانيا، وفرنسا، وغيرها، لكنها لا تستهدف فصل أوروبا عن أمريكا، أو عن الناتو مثلاً، وروسيا ليست بحاجة لهكذا خطوة، وهي في قوتها العسكرية غير التقليدية مثلاً تتعادل مع امريكا ومع كل (الناتو) علناً، وتتفوق عليهما سراً، ومثل روسي يقول من لا يرغب للاستماع للافروف وزير الخارجية سيستمع لشايغو وزير الدفاع، ويشمل القول الروسي أعلاه التحرش البحري العسكري الأوكراني في المياه الروسية الدافئة وسط البحر الأسود.
الراي