هذه هي فرنسا التي تعد من أعرق الديموقراطيات في العالم، تقف امام حالة مذهلة من الغضب الشعبي، وكأنها تستنسخ الشرق الأوسط، في نسخة أوروبية، وهي فعليا، لاتفعل ذلك، حتى لو اصر بعض الرسميين العرب، على ان فرنسا عربية أيضا.
مئات الجرحى والقتلى، والاحتجاجات تتواصل بسبب الضرائب ورفع أسعار الوقود، والمواجهات دموية، تدفع باريس الرسمية، لتتحدث عن فرض حالة الطوارئ، كحل أخير، لمنع ما تسميه حالة الانفلات العامة في البلاد، بعد ان عجزت عن مواجهة هذه الغضبة لما تتم تسميتهم أصحاب السترات الصفراء.
ما نراه في فرنسا، يدفع البعض في الشرق الأوسط، الى التباهي بحالنا، فيتذاكى البعض ليقول مفتخرا ان بعض الدول لم تشهد هذه الاحتجاجات الدموية، بل بقيت فيها سلمية، ولم يمت احد، ولم يتم جرح احد.
اخرون يخرجون ليتحدثوا عن ان الغضب الشعبي، سمة إنسانية، نراها في كل الشعوب، رأيناها في تونس، مثلما نراها في فرنسا، وحين يتم مس مصالح الناس، فينفلت الغضب بأشكال مختلفة، ودون سقوف.
اللافت للانتباه في النموذج الفرنسي، ان المواطن مصانة حقوقه السياسية، ولديه القدرة أساسا، على التعبير عن رأيه، والتأثير على حكومته، وهو أيضا يتمتع بحقوق متراكمة على صعيد الضمانات الحياتية والمعيشية، من حيث فرص العمل، او الدفع المالي عند البطالة، وبرغم ذلك انفلت الناس ضد حكومتهم، ولم يقولوا اننا محظيون مقارنة بشعوب أخرى، بل وقفوا في وجه ما يعتبرونه مساسا بحق من حقوقهم، وليس ما نظنه نحن في العالم العربي، ميزة يتمتعون بها.
الفرنسيون هنا، وجهوا رسائل قاسية الى حكومتهم، والى برلمانهم المنتخب وغير المزور، ودفعوا ثمنا قاسيا، بدم القتلى والجرحى، وكأنهم يسحبون الشرعية عن هذه المؤسسات، متناسين ما يمكن اعتباره تراكما في الإرث الإيجابي، خلال مئات السنين، او عشرات العقود.
هذا يعني من ناحية ثانية، ان هكذا شعب يحتكم الى اللحظة وما تعنيه من استحقاقات، ولايقف عند ما قدمته هذه المؤسسات في تواقيت سابقة، فهذا هو واجبها، وليس منة منها على الفرنسيين، كما ان الأهم، يرتبط بتأثير هذه الإجراءات الاقتصادية لاحقا، على حياة الفرنسيين، وما تواجهه فرنسا أساسا من تحديات اقتصادية على صعيد الديون والبطالة وغير ذلك من ظروف.
اللافت للانتباه في العالم العربي، ان جماعات الحكومات العربية تريد توظيف النموذج الفرنسي للقول، ان فرنسا أيضا تجرح وتقتل، وليس السلطة العربية، وحدها، فلماذا تدان السلطة العربية، اذا كانت كل سلطة تفعل الشيء ذاته، حتى ان فرنسا باتت تفكر على ذات الطريقة العربية، بفرض حالة الطوارئ، لمنع حالة الفوضى وتمددها، ومقابل جماعات الحكومات العربية، نجد جماعات المعارضات العربية أيضا، توظف النموذج الفرنسي لتقول ان الفرنسيين برغم كل حقوقهم، ومؤسساتهم الديموقراطية، انقلبوا على حكومتهم وبرلمانهم، ولم يترددوا لحظة، بقول كلمة « لا» كبيرة وبالدم لكل من يحاول التجاوز على مصالح الناس.
أيا كانت مآلات القصة الفرنسية، فإن قراءة المشهد الفرنسي، وتوظيفه عربيا ومشرقيا، قراءة مثيرة للغثيان، لان كل طرف في العالم العربي، يريد قراءة المشهد وفقا لمصلحته، واجندة الاتجاه الذي ينتمي اليه، هذا على الرغم من اننا جميعا بتنا خارج حسابات التاريخ والجغرافيا، لكننا نجد الوقت لتتبع الاخرين.
لا احد يحدثك أساسا، عن الفرق الحضاري الهائل بيننا كعرب، وبين الفرنسيين، والفرق في المنجز العلمي، والتشريعي والقانوني، وفهم الحقوق والواجبات، واستحالة المطابقة أساسا، بين نموذجين، او حتى استنبات التناقضات بين حالتين، حتى لو كان العنوان الإنساني، يبدو مشتركا، من حيث معنى غضبة الشعوب، والى أي حد يمكن ان تصل اليه، هذه الغضبة؟!.
لسنا وحدنا من يقتل ويجرح، ويفرض الاحكام العرفية، والضرائب ويرفع أسعار البنزين، هذه هي الدروس التي تعلمها بعض الرسميين العرب فقط، من المشهد الفرنسي، حتى يناموا وقد اطمأنت قلوبهم الى انهم أساتذة سبقوا الأمم، في كل شيء، وعلى هذا نوصي الفرنسيين باستشارة العرب، في قصتهم، والكيفية الممكنة لانهاء هذه الفوضى، بأسرع طريقة ممكنة.
الدستور