على مدى أكثر من عقدين تعالت الدعوات إلى زيادة المساحات المتاحة للمشاة في عمان والمدن الرئيسة الأردنية الأخرى، ولكن بدون جدوى رغم بعض المبادرات المحدودة بقيت الدعوات خجولة وموسمية، ولم نلمس تغيرا حقيقيا سواء في توسيع مساحة الأماكن التي تشكل متنفسا للناس لممارسة المشي في بيئة آمنة، أو في تطوير رؤية عصرية تسعى إلى تنظيم الأحياء الجديدة بطريقة تحمي حق الناس في المشي، بل تفاقمت المشكلة مع ازدياد الضغط على البنى التحتية الفقيرة وتحولت المدن الرئيسة إلى "علب سردين" حقيقية مزدحمة بالكتل الاسمنتية الممثلة بالمباني والزحام العمراني والكتل المعدنية المتمثلة بالسيارات مع تفاقم أزمة النقل والعجز الرسمي عن تطوير نظام نقل عام عصري.
سنبقى لعشرات من السنوات القادمة نحصي آثار العبث السياسي الذي اجتاح منطقة المشرق العربي في العقد الأخير على كل تفاصيل حياتنا اليومية؛ فعلاوة على ضعف التخطيط الحضري للمدن الأردنية الرئيسية والذهاب في الأغلب إلى الحلول السريعة، شهدت البلاد في آخر عقدين أكبر زيادة سكانية في تاريخها أدت إلى تضاعف عدد السكان في نحو عقد واحد ما زاد المشهد تعقيدا وزاد من الضغط على البنى التحتية المتواضعة في الأصل، حيث أصبح عدد سكان عمان يشكل نحو 40 % من سكان المملكة أي أن عمان تضخمت بمعدل الضعف خلال أقل من عقد بينما البنى التحتية فيها وتحديدا الشوارع لم تنم خلال هذا العقد إلا في حدود 15 %، ويزداد الأمر سوءا في كل من إربد والزرقاء والمفرق، كل ذلك زاد من أزمة نوعية الحياة في هذه المدن نتيجة الزحام وتراجع مؤشرات الاستدامة البيئية وعلى رأسها حق الناس في الحركة والمشي في بيئة آمنة وصحية.
للأسف خططت هذه المدن وفق مؤشرات آنية ولم تراع في الأغلب النمو السكاني الطبيعي الذي يفترض أن ينظر نحو 50 عاما إلى الأمام؛ ما بالك في النمو السكاني القسري الذي عمل على زيادة غير متوقعة نتيجة الظروف التي شهدتها المنطقة وحركة اللجوء والهجرات القسرية، إلى جانب الظروف الاقتصادية الصعبة وزيادة معدلات البطالة في الأرياف والمدن الصغيرة والقرى ما خلق حركة وهجرة داخلية واسعة.
علينا أن نتصور حجم الكلف الهائلة التي يدفها المجتمع الأردني نتيجة عدم تشييد مدن صديقة للحياة توفر على أقل تقدير ممرات للمشاة وأرصفة تنطبق عليها معايير الأرصفة التي يمكن السير عليها دون أن تصدم بآخرين وتصاب بالزكام أو أرصفة محمية من اعتداءات الباعة والتجار ومن المفارقات أن تجد رصيفا لا يتجاوز عرضه 1.2 متر وعلى امتداد الرصيف قد زرعت الأشجار الواقفة على اليمين واليسار ما يضطر المشاة إلى السير على الشارع.
لو تصورنا، توفير 20 ممشى بيئيا في عمان يمتد كل منها على طول 2 كلم على الأقل ونصف هذا العدد في كل من إربد والزرقاء، وممشى أو اثنين في كل مدينة وبلدة توفر للناس فرصا آمنة وممتعة لممارسة المشي ولو 20 دقيقة في اليوم، كم سيقلل هذا من فواتير الرعاية الصحية، وكم سيساهم في تحسين الظروف البيئية، وكم سيعمل على تغيير مزاج الناس وذائقتهم ونظرتهم للحياة وكم سيساهم في ازدهار القيم الايجابية ورأس المال الاجتماعي وربما الابداع والابتكار، وكم سيقلل من الحوادث المرورية، وهناك الكثير مما يقال بالنسبة للسياحة وجذب المزيد من السياح؛ وحسب التجارب العالمية والدراسات التي أجريت خلال العقود الماضية فإن خطوة من هذا النوع سوف تعمل على إطالة معدل أعمار الأردنيين خلال عقد واحد بنحو 3-4 سنوات وسوف تقلل من فاتورة الرعاية الصحية بنحو 15 % في نهاية المطاف، وذهبت بعض الدراسات أن الأفراد الذين يمشون يوميا بمعدل 30 دقيقة أكثر سعادة من الآخرين بنحو 40 %، وليس للتندر فالمشي يساعد في القضاء على الإشاعات والأخبار الكاذبة أيضا!
الغد