لوسألتني ماذا يملك نحو مليارين من العرب والمسلمين اليوم امام مشاهد القتل والدم التي تصدمنا، حيث الاخ يقتل اخاه ثم يستأجر الاخرين للاجهاز عليه، لاجبتك دون تردد : لا يملكون مع هذا العجز والحسرة سوى الدعاء فقط.
في خطبة الجمعة، وكذلك في الخطب و»البوستات» التي نقرؤها على وسائل التواصل الاجتماعي، نجد صوتا واحدا يدعونا الى استخدام «السلاح» الوحيد الذي نملكه، فنردد ما قاله مولانا الشيخ : اللهم انا لا نملك غير «الدعاء» فانزل علينا نصرك الذي وعدت!
حين تدقق في نسختي الدعاء، سواء أكانت دينية أو سياسية، تكتشف بأنهما مغشوشتان أحياناً، فالله تعالى أمرنا بالدعاء ووعدنا بالنصر، ليس باعتبارنا مسلمين فقط، ولا مظلومين أيضاً، وانما قرن الأمر والوعظ بشروط «العمل» والحركة وبذل الجهد والقيام بالواجب، فالوعد «بالنصر» مثلاً ليس شيكاً على بياض يعبئه المسلمون متى شاءوا ومتى أرادوا، واما هو «شيك» يحتاج الى رصيد يملؤونه هم بالعمل والتعب والاخلاص، وعندئذ يمكن ان يسحبوا منه، وقديماً قال علي بن أبي طالب للرجل الذي اشتكى اليه مرض ناقته بالجرب، وأخبره بأنه لم يمل من الدعاء لها بالشفاء: «هلا جعلت من دعائك شيئاً من القطران».
اذا تجاوزنا دعاء مولانا الإمام، فان دعاء مولانا «السياسي» يحتاج ايضا الى «شيء من القطران»، ولدينا في العمل السياسي اصناف متعددة من «القطران»، خذ مثلا صنف المساءلة، وصنف المحاسبة، وصنف الرقابة الحقيقية، والتشريع الصحيح، والنظافة السياسية، وتمثيل ارادة الناس ومطالبهم بعيدا عن منطق الحسابات الشخصية.. وغيرها.
وهذه الاصناف من «القطران» موجودة ايضا لدى المجتمع الذي ينتظر «الفرج» دون ان يفعل ما تقتضيه لحظة ولادة «الفرج»، ومن السذاجة (آسف) ان يتصور أحدنا بأن السماء تمطر «اصلاحا»، وبأن الدعاء وحده سيكشف «ملفات» الفاسدين، وسيرفع الغلاء وينهي «الوباء» لأن ذلك لا يتحقق الا بارادة البشر أولاً، وبحركة المجتمع نحو اصلاح نفسه واخلاقه ثانيا، فاذا ما نهض الناس بهذه المهمة، وتوافقت افعالهم مع قوانين الكون الحاكمة التي لا تحابي بشراً – مهما كان دينهم – على حساب بشر آخرين، تلاقت ارادة الارض مع وعد السماء، وتطابقت ارادة الاستجابة مع ارادة الطلب والدعاء.
فرق كبير بين اولئك الذين الذين دفعتهم انجازاتهم وانتصاراتهم الى البكاء فرحا او الابتهال والدعاء شكرا، وبين شعوبنا التي دفعها الشعور بالعجز وقلة الحيلة والظلم والاستعباد، او اضطرتها مآسي الحروب والصراعات الى الدعاء والتوسل او البكاء والندب وشق الجيوب، اولئك قاموا بواجبهم على الارض في بناء الحياة ونهضوا بمسؤوليتهم ثم جلسوا للدعاء او البكاء لاستئناف هذا الواجب واتمامه، اما نحن فقد خنقنا العجز والقتل والخوف والتخلف، واستفزعتنا دعوات «النعي» التي انتشرت حولنا، ولم يسعفنا تفكيرنا في الخروج من المقبرة التي اقمنا بين كوابيسها ودفنّا فيها عقولنا، فاستسلمنا لموجات طويلة من البكاء، حتى أعمت الدموع عيوننا عن رؤية حاضرنا ومستقبلنا، ثم لم نجد غير الدعاء للهروب الى الغيب، أو «ابراء» الذمة بعد الاحساس بالعجز وقلة الحيلة.. وانسداد ابواب «الامل»!
باختصار، التغيير والاصلاح من «صنع البشر»، والمعجزات انتهت مع انقطاع الوحي وانتهاء «النبوة»، وأخشى ما أخشاه ان يكون دعاء بعضنا مجرد هروب الى الغيب، أو «ابراء» للذمة بعد الاحساس بالعجز وقلة الحيلة.. وانسداد ابواب «الامل»!
نعم.. «ادعوني استجب لكم» صدق الله تعالى، ولكن ادعوني بالعمل لا بمجرد الكلام فقط! (الدستور)