مكانة القانون الدوليّ بين الاستفتاء السويسريّ والدستور الأردنيّ
سيف زياد الجنيدي
29-11-2018 06:29 PM
في الوقت الذي ما زالت به دول العالم العربيّ ودولٌ أخرى على غرارها السياسيّ تنكر حقيقة وجود وجدّية القانون الدوليّ برمّته، تحت ستار عباءة الدّفاع عن السّيادة الوطنيّة لتخفي غاياتها التسلطيّة والشموليّة من هذا الإنكار، نجد بأنّ الشعب السويسريّ ينتصر لهذه الشرعية الدوليّة بكلّ جرأةٍ ودونما تردّد في استفتاء القانون السويسريّ بدلاً من القضاة الأجانب الذي أجري بتاريخ 25 من شهر تشرين الثاني الحالي.
لم يتوقّف الأمر على سياسيي هذه الدول، بل تمتد محاولات انتزاع شرعية هذا النظام القانونيّ الدوليّ وتشظيته على الصّعيد الوطنيّ وخاصةً في مجال حقوق الإنسان من قبل النّخب الفكريّة فيها، حتى طغى هذا التّوجه على فكر أساتذة القانون إلى أن استوطن في أذهان أساتذة القانون الدستوريّ الذين ينبغي بهم السّعي الدؤوب إلى بلوغ روح النّصوص الدستوريّة وتأصيل الحقوق والحرّيات بأبعادها الدوليّة، وعدم التّعامل مع الالتزمات الدوليّة الحقوقيّة من منطلق قاعدة العقد شريعة المتعاقدين.
وعودةً إلى البدء، تعود تفاصيل استفتاء الشّعب الدستوريّ إلى أنّ حزب الشّعب السويسريّ اليمينيّ تقدّم بمقترحٍ لإضافة بندٍ دستوريّ يمنح القانون السويسريّ أولوية التّطبيق عند تعارضه مع الاتفاقيات الدوليّة، وجاءت مبرّرات هذا المقترح بهدف الحفاظ على الحياد السويسريّ، وأن أولوية تطبيق الاتفاقيات الدوليّة بمثابة تهديد للديمقراطية المباشرة في سويسرا. وجوبِه هذا الاستفتاء بالرّفض بنسبة (63%) من الناخبين المشاركين في الاستفتاء العام.
وفي خضم هذا الحدث يتوجّب البحث عن إجابةٍ منطقيّةٍ لسؤالٍ تقليديّ له إجابةٌ فطريّةٌ يتيمة، وهو ما مكانة المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة في النظام القانونيّ الأردنيّ؟
من خلال البحث والإمعان في النّصوص الدستوريّة يُمكننا أن نغاير ما تناقله أساتذة القانون الدستوريّ والدوليّ من رأي موحّد ينطلق من عدم تحديد الدستور الأردنيّ مكانة المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة في النظام القانونيّ الوطنيّ، لنقول بأنّ القراءة التحليليّة المتأنية لنصوص الدستور الأردنيّ ستقودنا حتماً إلى إجابةٍ أخرى لها ما يُبرّرها.
اعتنق الدستور الأردنيّ فكرة تجزئة مصادر القانون الدوليّ العام لغايات تحديد مكانة هذا القانون في النظام القانونيّ الوطنيّ وفق الآتي:
أولاً: الأعراف الدوليّة التي تتمتّع بقيمة قانونيّة تسمو على التشريعات البرلمانيّة.
منح المشرّع الدستوريّ الأردنيّ بموجب المادة (103/1) من الدستور طائفةً معينةً من الأعراف الدوليّة قيمة قانونيّة تسمو على القوانين الوطنيّة، تمثلت بالأعراف الدوليّة المتعلقة بتطبيق قوانين وطنيّة معيّنة في مسائل الأحوال الشخصيّة للأجانب، وبعض المسائل الحقوقيّة والتجاريّة، وهو ما يعرف بالقانون الدوليّ الخاص. حيث جاء بها:(تمارس المحاكم النظاميّة اختصاصاتها في القضاء الحقوقيّ والجزائيّ وفق أحكام القوانين النافذة المفعول في المملكة على أنّه في مسائل الأحوال الشخصيّة للأجانب أو في الأمور الحقوقيّة والتجاريّة التي قضت العادة في العرف الدوليّ بتطبيق قانون بلاد أخرى بشأنها ينفّذ ذلك القانون بالكيفية التي ينص عليها القانون).
ثانياً: المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة التي تتمتّع بقيمة قانونيّة مُماثلة للتشريعات البرلمانيّة العاديّة.
تنقسم هذه المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة إلى نوعين؛ يتمثل النوع الأول بالمعاهدات والاتفاقيات التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة شيئاً من النفقات، أو مساساً بحقوق الأردنيّين العامّة والخاصّة.
يتمثّل أسلوب الموافقة على هذه المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة بسن تشريعٍ برلمانيّ يصادق على مضمون المعاهدة أو الاتفاقية، وما هذا النّهج الدستوريّ سوى إكساء الصكوك الدوليّة قيمة التشريعات البرلمانيّة العاديّة، ممّا يترتّب عليه إمكانية تطبيق القضاء الوطنيّ لمضمون هذه المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة ليس على أساس التطبيق المباشر لها، بل من خلال تطبيق فحواها الوارد في التشريعات البرلمانيّة.
وتأسيساً على ما سبق فإنّ مخالفة السلطة التنفيذيّة هذا الإجراء الدستوريّ، والمتضمّن وجوب الحصول على موافقة مجلس الأمّة على هذه المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة، واستكمال المراحل الدستوريّة اللازمة لسن التشريعات البرلمانيّة يُفقدها فرصة التّمتع بالقيمة القانونيّة، واعتبارها بهذا مجرّد معاهدات أو اتفاقيات مبرمة من قبل السلطة التنفيذيّة بمفردها.
أمّا النوع الثاني من هذه المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة، فتتمثل بالمعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بتسليم المجرمين العاديّين الواردة في المادة (21/2) من الدستور، والتي جاء بها:(تحدّد الاتفاقيات الدوليّة والقوانين أصول تسليم المجرمين العاديّين).
تكمن حجة القول باتجاه إرادة المشرّع الدستوريّ نحو منح هذه المعاهدات والاتفاقيات قيمة التشريعات البرلمانيّة العاديّة، لمساواتها بالتشريعات البرلمانيّة العاديّة كمرجعٍ قانونيّ في إطار تنظيم موضوع تسليم المجرمين، دون الإشارة إلى سمو إحداهما على الأخرى، علاوةً على اعتبارها من التشريعات ذات المساس بحقوق المواطنين بموجب المادة (33/2)، وبالتالي تتطلب لإنفاذها في النظام القانونيّ الوطنيّ الحصول على موافقة مجلس الأمّة، واستكمال المراحل الدستوريّة اللازمة لسن التشريعات البرلمانيّة.
ثالثاً: معاهدات واتفاقيات دوليّة لا تتمتّع بأيّة مكانةٍ قانونيّة.
غفل المشرّع الدستوريّ الأردنيّ عن بيان القيمة القانونيّة للمعاهدات والاتفاقيات الدوليّة التي تبرمها السلطة التنفيذيّة بصورةٍ منفردةٍ وفقاً لاختصاصها العام المستند إلى نص المادة (33/1) من الدستور، ومن هنا انبثقت الإشكاليّة الأساسيّة لمكانة المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة في النظام القانونيّ الأردنيّ، لأنّ غالبية المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة تنتمي إلى هذه الفئة.
إنّ هذه المعاهدات والاتفاقيات لا تتمتّع بأيّ قيمة قانونيّة في النظام القانونيّ الوطنيّ، وحجة هذا القول بأنّ الدستور حدّد حصراً الحالات التي يجوز فيها للسلطة التنفيذيّة سن قواعد قانونيّة ملزمة (قوانين مؤقتة، وأنظمة)، وبالتالي لا يجوز التّوسع في هذه الصلاحيات وإكساب مخرجات الممارسات السياسيّة للسلطة التنفيذيّة مكانة قانونيّة كالتشريعات البرلمانيّة، بل ولا حتى كالمكانة القانونيّة للأنظمة.
بناءً على ما سبق، فإنّ الالتزامات الدوليّة المنشأة بالاستناد إلى الصلاحية المنفردة للسلطة التنفيذيّة تبقى في دائرة الالتزامات السياسيّة، وتكون مجرّدة من أيّة قيمةٍ قانونيّة.
نستنتج من كلّ ما سبق بيانه بأنّ الدستور الأردنيّ وعلى الرّغم من أوجه القصور التي تعتوره قد استطاع إبراز إرادة المشرّع الدستوريّ المتعلقة بمكانة القانون الدوليّ في النظام الوطنيّ، وأنّ تحري مكامن هذه الإرادة وأبعادها يحتاج إلى جهدٍ ذهنيّ يؤمن بقراءة النّصوص القانونيّة كوحدةٍ واحدةٍ غير مجزّأةٍ مع إنكار الأخذ بالمسلمات والأفكار المنمّطة الجاهزة للتّناقل، وإدراك الطبيعة الخاصّة للالتزامات الدوليّة الحقوقيّة غير المستندة على فكرة الالتزامات المتقابلة خصوصاً في ظل خروج الفرد من انصهاره في وعاء وحدة العلاقة القانونيّة مع الدولة.