مُقتطفات من سيرة وصفي التل
د. محمود الشوابكة
29-11-2018 12:41 PM
المُقتطف الأول:
عربكير؛ أول الحكاية:
نحو كردستان العراق؛ يمم عرارا وجهه، إلى حيث يقيم عمه علي نيازي التل؛ قائمقام عربكير..هناك؛ رأى منيفة - شقيقة زوجة عمه - فَرَقّ قلبه لها، و رجا عمه أن يطلبها له؛ فطلبها من أبيها؛ الوجيه؛ ابراهيم بابان؛ فَصَحَّتْ، فبنى بها؛ فكان أول حملها؛ ذاك الذي لا زال حتى الآن قصة عشق، وحكاية رجل سمق على أقرانه وقزمهم، حتى وهو تحت الثرى...
كما توقع عمه، ترك عرار عربكير، وعاد إلى الوطن؛ فعرار المسكون بالقلق وبالترحال، مسكونٌ أكثر وأكثر بوطن كان يراه روضة لا يقوى البعد عنها؛ روضة يذود عنها العادين عليها...عاد عرار وترك خلفه منيفة...وترك خلفه وصفي....
ظل وصفي مع والدته، عند جده، حتى سن الخامسة، وقت أن تلقت منيفة من عرار صورة له، كتب على ظهرها كلمات تفيض شوقا لوصفي وجوىً؛ فتأثرت بها أمه الأصيلة؛ منيفة؛ فحملته و غادرت ديار أهلها بصحبة أبيها...غادرت بوصفي إلى مسقط رأس أبيه وأجداده...
كبر وصفي، وأكمل المدرسة، وتحول بعدها إلى دمشق؛ التي ما أن تخرج من جامعتها، حتى عاد إلى الوطن ليختط مسيرته نحو المجد، وليسطر؛ حيثما حَلَّ منهجا فريدا في الفكر، وفي الحكم؛ منهج المنافح عن قضايا الأمة، وقضايا الوطن، فتدرج في الدولة حتى تسنم حكومتها وهو، كما أبيه، على عهد الوفاء للأمة ولقضاياها...
المُقتطف الثاني:
أولاً: المعركة عنوان الوجود":
رغم أن المنطقة قد تعرضت لغزو أوروبي، في القرنين الحادي والثاني عشر، وغزو أوروبي لمعظم دول العالم العربي بدءاً من القرن التاسع عشر، إلا أن الغزو الصهيوني لفلسطين يعد أخطر أنواع الإستعمار على الإطلاق، فإذا كان الإستعمار بمفهومه التقليدي يتخذ أشكالا جزئية محدودة؛ كالإحتلال العسكري المؤقت اويتجه نحو تحقيق منافع استراتيجية او اقتصادية معينة، او نحو إحلال ثقافة وقيم ومبادىء المُسْتَعمِر، بدلا من ثقافة المُستَعْمَر وقيمه ومبادئه، إلا أن الإستعمار الصهيوني يهدف، وبشكل جذري أبدي، إلى تغيير الأوضاع القائمة في هذا الجزء من العالم؛ تغييراً جغرافياً وبشرياً، وإن من طبيعة هذا الاستعمار هو أنه لايقنع بما يحققه من مكاسب؛ لأن وقوفه عند حدود معينة يتنافى مع غرائز التوسع المستمر الذي ينطوي عليه جوهره، فضلاً عن خشيته إذا ما توقف، أن يرتد عليه مَنْ اغتصب وجودهم؛ فيزيلونه ويقضون عليه...
..فلسطين؛ إذا، ليست الهدف النهائي للصهيونية، وإنما هي مُنطلق تلك الحركة لتوسعات أخرى، تُقَرِرُ مكانها، وزمانها، عناصر القوة والضعف، في مفهومها الشامل؛ سياسيا وعسكريا واقتصاديا وعلميا، مُعبأة في طاقة كلية، تتصارع مع طاقة كلية مقابلة، في كفتي ميزان، تَرجَحُ احداهما على الأخرى...
وعليه، ووفقا لهذه الرؤية، فإن العلاقة مع هذا الكيان إنما هي علاقة وجود، لن يستقيم وجود الأصيل مادام الدخيل موجودا؛ ذلك هو خلاصة فكره في العلاقة مع دولة الإحتلال التي لم يرى، في يوم من الأيام، أية جدوى لما كان يُطرح من حلول سلمية، وأن الحديث في ذلك؛ هو حديث عبثي، لن تستفيد منه إلا دولة الإحتلال. وذلك هو ما ثَبُتَ، لاحقا، بالدليل والبرهان، من خلال ما بات يعرف؛ ب: " مسيرة السلام".
ثانياً: دور العقل والخلق في معركة التحرير: نشر وصفي، في آذار من عام ١٩٦٧، وتحت اسم مستعار في بداية الأمر؛ كتابه المعنون؛ ب: " فلسطين؛ دور العقل والخلق في معركة التحرير"، وهو الكتاب الذي شخص فيه أسباب هزائم ال ٤٨، وال ٥٦، وهي ذات الأسباب التي كانت، لاحقا لذلك، سبب هزيمة ال٦٧!!!.
فقد رأى وصفي أن أسباب الهزيمة تكمن، في جانب رئيس منها، في تغييب العقل والخلق..فالعقل يقتضي، بداهة، أن نُحَيِّد العواطف، وما تجره من أقوال وأفعال؛ من بيع للوهم والضحك على ذقون الناس. أما الخُلق فإنه يقتضي، في صورة من صوره المهمة، ليس فقط عدم الفرار من المسؤولية، بل إنه يقتضي فضلا عن ذلك، أن يتقاسم الشركاء في الهزيمة، نسبة كل منهم فيها. وبذلك فإن حالة الإنكار المتعمقة في السلوك السياسي العربي، من حيث إلقاء كل طرف تبعات كل هزيمة على الآخرين، كانت سببا رئيسا في تكرار الهزائم...
وعليه فقد أكد على أن إعمال العقل يتطلب التخطيط للمعركة بإسلوب علمي ممنهج؛ أسلوب تُعَبَّأ فيه الطاقات، وتُوزع فيه المهام، وتُرسم فيه الخطط على أيدي المختصين.... وبغير ذلك سنبقى نجتر الهزائم ونتلقى النكبات تلو النكبات...وللأسف هانحن، على ذات المسلك، لم نكتفِ بعدم الإستفادة من أخطاء الماضي، بل أعدنا انتاج تلك الأخطاء بصيغ جديدة مدمرة؛ ها نحن ندفع الثمن الباهض لها، رغم مضي مايزيد عن نصف قرن من الزمان على ذلك التشخيص.
المُقتطف الثالث:
" الانقلابات العسكرية":
تكمن مهمة الجيش، الذي هو جزء من السلطة التنفيذية في الدولة الحديثة، في الحفاظ على استقلال الدولة، و أمنها، وحمايتها من الأخطار الخارجية.
و يرى وصفي أن الخطوة الفاجعة؛ لأي جيش، تبدأ من تدخله في السلطة، ويرى أن أي بلد يقفز فيه الجيش إلى سدة الحكم؛ فإن النتيجة التي تترتب، حتماً، على ذلك؛ هي: انزلاق ذلك البلد إلى هاوية الإستبداد و والفساد و الفشل، وما هذا الذي رأيناه؛ رأي العين، من فساد طاغٍ، و من فظائع ومآسٍ في البلدان التي حكمها العسكر، على الساحة العربية؛ كاليمن وليبيا، و..و.... إلا دليل على فكره الثاقب الذي تجلى في هذا السياق؛ أما الشواهد العالمية، التي تدلل على صوابية فكره في هذا المجال فهي كثيرة للغاية؛ حيث سجل التاريخ، في صفحاته السوداء، مآلات حكم سوهارتو في إندونيسيا، و ضياء الحق ومشرف في باكستان، و بينوشيه في تشيلي، و أراماس في غواتيمالا، و ماركوس في الفلبين، ناهيك عن كوريا الشمالية التي حكمها العسكر، وما زالوا، بالنار والحديد، يتلذذ فيها السادة ببطونهم المتخمة، وعيونهم التي فتنتها مشاهد العروض العسكرية، بينما بطون الشعب خاوية، يتحسر أصحابها على ما يرونه من رفاهية طاغية على أشقائهم في الشطر الجنوبي، الذين صنعوا على وقع صدقية صناديق الإنتخاب معجزة اقتصادية، لتكتسح هواتفهم وسياراتهم وأجهزتهم الكهربائية جيوب البشر وشوارعهم ومنازلهم من بوابة الإقتصاد...كل ذلك والعسكر المستأثر بالسلطة، في بلد الشقيق الشمالي، يتبجحون بالإنجازات العسكرية!!!... فهل فينا ، بعد ذلك، من يدافع عن الإنقلابات العسكرية؟!.
المقتطف الرابع:
" محاربة الفساد":
تجلى الفرق بين وصفي ومن سبقوه، وكثير ممن جاء بعده، أنهم تحدثوا عن الفساد، بينما تحدث هو عن الفاسدين وسماهم؛ فقد ابتدأ خطواته الإصلاحية، في مُستهل عهد حكومته الأولى، بحل مجلس أمانة العاصمة، وقبول استقالة رئيس المجلس، وذلك في ٢٦ شباط من عام ١٩٦٢، لِيُعين بدلا منه لجنة مؤقتة، لاستكمال ما تبقى من مدة عمل المجلس الذي تم حله، يرأسها القاضي؛ بشير الشريقي، العضو في محكمة التمييز، المشهود له بالنزاهة والاستقامة.
وقد كان من بين الأعضاء السبعة الآخرين؛ منيف الرزاز؛ الشخصية المحورية البارزة في حزب البعث.
المُقتطف الخامس:.
"علاقة الحكومة بالمجلس النيابي":
بعد تكليفه بتشكيل حكومته الأولى، في ٢٢ شباط عام ١٩٦٢ انبرى لتخويفه، من احتمالات عدم نيله لثقة مجلس النواب، بسبب موقفه من حرب اليمن، جمع أطلق عليهم؛ وصف الغيارى، الذين أشاروا عليه بضرورة الإتصال بالنواب بهدف تأمين الأغلبية المطلوبة لنيل الثقة، في ظل تلك المعطيات. فما كان من وصفي إلا أن اعتذر عن القيام بذلك؛ وقال:
لا أريد أي اتصالات، فأنا سأتقدم إلى المجلس ببرنامج محدد، وكل نائب حر في أن يوافق عليه أو لايوافق، هؤلاء الذين يرمون ثوب الغيرة على مصلحة حكومتي يرمون الى فرض الوصاية عَليّ وعليها، ولاتنسى أنني سأكون مدينا لكل نائب يتم الإتصال به، مباشرة، أو بالواسطة، وسيطالبني، في المستقبل بقضاء حاجة خاصة له؛ كتعيين أحد أقاربه، أو المحسوبين عليه، في وظيفة عامة.....لا؛ شكرا؛ لقد أغلقنا دكاكين الواسطات، ولا نريد أن نفتحها من جديد" .
تلك هي نماذج اقتطفناها من مسيرة وصفي؛ مسيرة شكلت بالنسبة لنا، أرضية فكرية واعية، ثاقبة، عميقة، مستنيرة، ما جعل من صاحبها خطر حقيقي، على
" إسرائيل"؛ الفكرة، و " الدولة"، في آن معاً؛ الحال الذي كان فيه قرارها؛ هو: الموت لوصفي....
ألا رحم الله وصفي، الذي إن كان قد غُيِّبَ جسدا، فإن فكره، ومنهجه، باقٍ لم يموت....إلا رحم الله وصفي.