حين استمعت الى مداخلات بعض المثقفين الذين حضروا لقاء رئيس الوزراء ووزير الثقافة، امس الاول، في المركز الثقافي الملكي، انتابني شعور عميق بالحزن الممزوج بالخيبة، ليس من اللائق هنا ان اقول لماذا، لكن سؤالا واحدا ظل يطاردني ربما يختصر المشهد بكامله، وهو : أين هو المثقف الاردني، وما هي رسالته، وهل تحمّل مسؤوليته وقام بدوره أم أن ثمة خنادق ما تزال تحفر، وخدمات بائسة ما تزال تقدم لنيل الرضا، وبضائع فاسدة ما تزال تروج، فيما يجد آخرون من المثقفين الأصلاء -وما أكثرهم- جدرانا من الصد، وصواعق لردع القامات من الحضور، ومعارك مفتعلة للطرد من «الملة» الوطنية أو الثقافية، باسم المواصفات الثقافية المطلوبة، واحيانا باسم المصالح والقوى التي لا يعلو على صوتها صوت.
السؤال ذاته كان يتردد -وما يزال- في أذهان الكثير من المثقفين الذين شعروا بالإقصاء عن المؤسسات التي أقيمت على هامش الخندقة والتصنيف، أو أولئك الذين طاردتهم ميليشيات الثقافة التي حملت البندقية تارة.. وتارة أغصان الزيتون، أو الأحرى التي استرخت مرة تحت ظلال سيف السلطة واغراءتها ومرة اخرى فوق مركب الثورة العائم في محيط الفوضى تبعا لما يتجدد من شعارات أو مصالح أو تقاليع الارتباط بالسياسي ومكافآته التي توزع في كل اتجاه.
إن من يرصد حالتنا الثقافية، وما انتهت إليه مؤسساتنا الثقافية، يكاد يشعر بالأسف والمرارة جراء هذا الصراخ الذي لا يحمل أي معنى،وهذا التنمر والتذمر الذي لم يثمر -في يوم ما- فعلا ثقافيا جادا، وهذا الارتباك الذي اختصر خطابنا في المطالبات فقط: مطالبات الحرية ومنع الرقابة.. ومطالبات تنزيه المثقف من المساءلة.. وتعميده من الخطأ.. ومكافأته على التفرغ للابداع وتتويجه سلطانا بلا أي شروط ابداعية!!
في زمن التيه تبحث الشعوب عن المثقف الفاضل ليرشدها إلى الصواب، أو لكي يدلها على الطريق الصحيح، لكنها -للأسف- تشعر بالخيبة حين تجد مثقفيها استقالوا من مهمتهم التنويرية، وتحولوا لقبائل تتوزع على هوامش السياسية، وتتناحر بحثا عن الغنائم والمكاسب.
فيما مضى كانت شهادة السجن كفيلة بإشهار ميلاد المثقف، ليس ميلاده فقط، بل تتويجه مناضلا وطنيا واعتماده عضوا مؤسسا في إحدى الروابط الثقافية او المؤسسات الوطنية، لكن ذلك الزمن مضى، وانتهت معه بعض تلك البطولات التي كانت تشكل في وعي المواطن حالة الاعتراف بالمثقف.. والدوران حول افكاره المطروحة.
ومنذ ذلك الحين استبسل الكثير من المثقفين في البحث عن لافتة أخرى يصدرون من خلالها أسماءهم، ويستمدون منها مشروعية حضورهم، فمن اليسار وأفكاره الأممية وانقلاباته القومية وشعارات الاشتراكية والثورية خرج علينا كثيرون، ومن اليمين الذي احتكر رؤية العالم في مخيال اراد ان يفرضه على الجميع صعد الينا «متنبون» جدد، ومن علب الثقافة الغربية -حيث الأبناء المعجبون بالليبرالية والحداثة وما بعدها -خرج آخرون.. فيما ظل السؤال: أين المثقف الوطني الحقيقي؟ وأين دوره ووظيفته..؟ وهل انتهينا من مركب النقص الثقافي وتابعية الالتجاء للآخر، لنقف عند حدود الذات الوطنية والفكر الأصيل للأمة، بعد كل هذه السنوات من الغربة والكبوة والضياع.
الان، ثمة مثقفون يدافعون عن الاستبداد والقمع تحت لافتة الممانعة وثمة آخرون يخوضون حربهم لشيطنة خصومهم، وثمة طبقة ثالثة منهم برعوا في التضليل والكذب، ورابعة انزلت عن المجتمع بـ»البرشوت»، وخامسة انحازت للسلطة مهما كان الفاعلون فيها، أما المثقف الفاضل الذي يعبر عن ضمير الناس فقد تراجع صوته أو تم تغييبه أو اضطر أن يبقى على الهامش وسط ضجيج يحاصره من كل اتجاه.
كان اللّه في عون المثقف الحقيقي (لا المزور)الذي آثر أن يخرج من أطر مؤسسات الثقافة التي لم تعترف به بعد.. ومن صالونات المثقفين الذين يبيعون كل شيء.. ما عدا الإبداع.. ومن وصفات الحظوة التي جردت أصحابها من آخر أوراق مشروعيتهم في الثقافة والنضال.!
الدستور