تحت شادر مشدود من أطرافه وله سقف فقط، حتى دون أن تنسدل أية أروقة على جوانبه، وتحت المطر المنهمر من السماء بكل رقّة وحنان، وبين اندفاعات الريح المتحدرة من أعلى برج إيفل، جلس حوالي 70 زعيماً من مختلف أنحاء العالم، بعد أن تنادوا ليقولوا كلمة «سلام».
وفي الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد، الحادي عشر من تشرين الثاني من هذا العام، ارتفع صوت المنادي الفرنسي ليعلن بدء مراسم أحياء مئوية توقيع الهدنة التي أنهت الحرب العالمية الأولى، في تجمع عالي الهمة، حذَّر خلاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من النزعة القوميّة، ودعا إلى نبذ «الأنطواء والعنف والهيمنة».
اجتمع في يوم الأحد ذاك، سبعون زعيماً، وذلك نكوصاً عن قرار أجدادهم الذين جمعوا سبعين مليون عسكري ليخوضوا، في جبهات متقابلة، حرباً سميّت «الحرب العظمى»، جمعت كل القوى الكبيرة؛ الاقتصادية والعسكرية في تحالفين متعارضين تطاحنا، وخلف صراعهما أكثر من سبعة عشر مليون قتيل، وأكثر من ذلك من الجرحى والمعوّقين، ناهيك عن التدمير والخراب الذي ملأ أطراف الدنيا.
وبعد ذلك بواحد وعشرين عاماً اندلعت حرب طاحنة ثانية، شارك فيها أكثر من مئة مليون عسكري، من ثلاثين بلداً، وخلّفت ما يزيد عن اثنين وستين مليون قتيل بين مدني وعسكري، أي ما عادل 2% من سكان العالم أنذاك. ومع كل هذا فإن دول هذا الطرف من العالم تحاول قدر الإمكان، وتبذل أقصى جهدها، في سبيل إعادة الاعتبار فردياً وجَمْعيا، ولا تترك شاردة ولا واردة إلا وتغتنمها لإعادة اللُّحمة فيما بين الأجزاء المتنازعة والمتصارعة، وذلك بعد أن أدركت هذه الدول أن الفُرْقة والتصادم هما أوّل مَدارج الانهيار والضياع. كما تيقنت هذه الدول، حتى وهي في قمة خلافها، أنّ عليها أنْ تُعظّم مفهوم الوحدة والاتحاد والتقارب والتعاون والتلاقي، رغم أن هناك الكثير من الاختلاف العرقي والمذهبي والثقافي واللغوي والمصلحي.
وهنا تأتي وقفتنا، فالأجيال العربية، التي تَحدّرت من أصل واحد هو، على الأقل يجمعهم في تحدُّر من جَدٍّ واحد، ويَصْدُرون عن مشرب واحد؛ لغوياً وثقافياً ومذهبيّاً وفكرّياً وتاريخيّاً وتجربة استعمارية، وحتى تقاطيع الوجه ولون البشرة يكادان أن يكونان واحدًا، هذه الأجيال تقف كل صباح وكل مغيب شمس، على أطراف أصابع أقدامها تستطلع السابق واللاحق، تريد أن تفهم لماذا لم نجلس يوماً إلى طاولة واحدة، نتداول أمورنا، ونقرأ حالنا، ونسأل لماذا هُنّا على أنفسنا وبالتالي هُنّا على الناس؟
الأمر يُدمي القلب، عندما يدري أحدُنا أن العالم العربي مملوء اليوم بنزاعات داخليّة يجري فيها استقواء الإخوة بعضهم على بعض. والأنكى من ذلك أنه يتم استدعاء الأجنبي والعدو والغريب ليساعدوا طرفاً عربيّا ضد طرف عربي.
وأكثر من ذلك أسى وعُجْباً وألماً، أن بعضنا بات يقاتل بعضاً، خدمة لهذا الأجنبي وهذا العدو وهذا الغريب، حتى أنا بدّلنا المثل ورحنا نقول: «أنا والغريب على ابن عمي وعلى أخوي وعلى ابني وعلى ذاتي».
وأنا، كمواطن عادي، أتحدى أن تذهب إلى أي شبر من «بلاد العُرْب أوطاني»، والا تجد هناك مآلات للمآسي والأحتراب والاقتتال، إلاّ من رحم ربَّك، حتى هذه فإنك واجد فيها خلافات لا تدري ما سببها، وكل ما تدريه أنها توُدِي بكثير من استقرار الدولة وأمنها وأمانها.
هناك على مشارف برج إيفل وقف كل هؤلاء الزعماء تحت المطر، في محاولة لاعتماد مبدأ يقول: «لا للحروب»، ولأخذ «عالمهم» نحو نبذ العنف والانطواء والهيمنة.
متى يا رب يجتمع سبعون زعيماً عربياً تحت خيمة، نحن مستعدون أن ننسجها من أهداب عيوننا، ليقولوا لأنفسهم أولاً، ولأهلهم ثانياً، وللعالم ثالثاً: إننا نحتفل بمرور الف وأربعمائة وأربعين عاماً على ميلاد دولة سيّد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، التي جمعت الناس، وأقامت للعرب وللمسلمين مراكز للشرف والهيبة والعزّة والاقتدار.
Email: ohhadrami@hotmail.com
الرأي