التحوط المالي والفرصة السانحة
د. جمال المصري
25-11-2018 03:04 PM
تتصف أسواق البترول أو الغاز كما أسواق السلع الأساسية بتقلبات أسعارها مما يعرض المتعاملين فيها، مستهلكين ومنتجين، لمخاطر تقلبات الأسعار المستمرة التي بدأت تأخذ اتجاهات حادة ومفاجئة أحيانا في حالتي الارتفاع والانخفاض على حد سواء.
ورغم معرفة العوامل التي تؤثر وتلعب دورا في تحديد مستويات هذه الأسعار على المدى القصير؛ منها الأحوال الجوية والعوامل الموسمية وحجم المخزونات الاحتياطية العالمية وقوى الطلب والعرض، إلا أن العوامل الجيوسياسية والمضاربة في الأسواق الآجلة تعمل على زيادة حدة تلك التقلبات وتعميق تأثيراتها، ما زاد من حاجة الدول المستوردة للتحوط ضد موجات توقعات الارتفاع في الأسعار، وحتى للدول المنتجة التي سارعت لتبني استراتيجيات للتحوط ضد انحدار أسعار النفط مستعينة ببنوك الاستثمار العالمية التي وسعت من خدماتها في هذا المجال.
وإزاء ذلك، صار ضروريا إيجاد آليات تقي المتعاملين في أسواق البترول خسائر ضخمة نتيجة ارتفاع أو انخفاض غير متنبئ به وذلك باستخدام العقود الآجلة، المستقبليات، عقود الخيارات وعقود المبادلات للتحوط ضد مخاطر الأسعار، مستفيدة من الابتكارات المالية الثورية التي ساهمت في نمو أسواق المشتقات المالية وجعلت من الممكن أن تتحوط الشركات والحكومات ضد الأنواع المختلفة للمخاطر سواء كانت مخاطر تقلبات أسعار الفائدة والصرف أو أسعار المعادن والسلع خلال السنوات الثالثين الأخيرة.
إن التحوط من، أو التأمين ضد، مخاطر ارتفاع الأسعار عالميًا والشائع استخدامه باستخدام هذه الأدوات، كالعقود الآجلة، يعني أن تتعاقد الحكومة مع شركة بترول أو بنك استثمار عالمي على شراء كمية محددة من البترول بسعر متفق عليه مسبقًا خلال فترة او فترات زمنية محددة. وقد تتحمل الحكومة أو الشركات التي تلجأ إلى أسلوب العقود الآجلة مخاطرة أن ينخفض السعر العالمي عن السعر المتعاقد عليه، ما يعني أن الشراء بالسعر المتعاقد عليه حينها سيرتب خسارة الفارق، إلا أن التعاقد بأسلوب خيارات الشراء، الذي يتطلب دفع مبلغا تأمينا ثابتا مقدما، يتيح الاستغناء عن التعاقد والشراء من السوق بالسعر الأقل؛ ما يعني أن اختيار نوع العقد التأميني التحوطي تحكمه درجة عدم اليقين بتوقعات اتجاهات الأسعار. وبهذا المفهوم، فإن التحوط ضد مخاطر ارتفاع أسعار النفط، يساعد في تحقيق عجز الموازنة المستهدف والتخلص من دعم المشتقات النفطية، الذي بقيت الحكومة تتحمل أعبائه لسنوات طويلة.
كما أن التحوط يساهم في تخفيض أسعار الطاقة والكهرباء عند مستويات مناسبة لما تتيحه هذه الآلية من تثبيت للأسعار لفترة زمنية طويلة وتجنب نقل تقلبات السوق العالمية إلى المستهلك وبالتالي استقرار توقعات التضخم.
إن اقتراح ضرورة المسارعة بتبني هذه الألية يأتي في ظل انخفاض أسعار النفط بما يزيد عن 30% من المستويات المرتفعة الأخيرة التي سجلتها في أوائل تشرين الأول الماضي حيث انخفضت أسعار خام برنت في يوم الجمعة السوداء إلى 58.8 دولارا للبرميل. وهو ما يعزى لزيادة الإمدادات، لا سيما من الولايات المتحدة، وارتفاع الإنتاج الامريكي بنحو 25% هذا العام مسجلا مستوى قياسيا عند 11.7 مليون برميل يوميا، وهو ما يثير القلق من أن يؤدي فائض الإنتاج الذي بدأ يظهر إلى انهيار الأسعار كما حدث في عام 2014 رغم الضغوط التي تمارسها منظمة أوبك من أجل خفض الإمدادات بين مليون و1.4 مليون برميل يوميا. كما يعزز من هذا القلق التوقعات الواسعة النطاق الأخيرة بتباطؤ اقتصادي عالمي والتي انعكست مباشرة على تراجع أسعار الأسهم في البورصات العالمية هذه الأيام.
وتشكل هذه الظروف فرصة سانحة للمسارعة في تبني استراتيجية للتحوط ينبغي اغتنامها وعدم إهدارها مجددا كما حصل في عامي 2014 و2015 عندما وصلت أسعار النفط الى أدنى مستوياتها.
بالإضافة إلى ضرورة وضع استراتيجية التحوط ضد ارتفاع أسعار النفط باعتبارها خطوة مالية إصلاحية لا يفترض تفويتها، فالحاجة ماسة لأن يتسع نطاق تطبيقها ليشمل أيضًا التحوط ضد ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بما ينعكس على تخفيض تعرفة الطاقة الكهربائية.
وفي هذا الشأن، يصعب تصور ألا تكون عقود استيراد وشراء الغاز الطبيعي المعمول بها حاليا من خلال شركة "شل" والجانب المصري محكومة بالية للتحوط، ويفترض أن تتولى شركات انتاج الكهرباء تولي استيراد احتياجاتها من الغاز باستخدام آلية للتحوط وتخلي شركة الكهرباء الوطنية، التي بقيت تتحمل فروقات أسعار الغاز والوقود، عن هذه المهمة لتتجنب بذلك تحمل هذه الخسائر.
كما يفترض أن يتسع نطاق آلية التحوط أسعار معظم السلع الأساسية وفي مقدمتها أسعار القمح خاصة وسط التوقعات الأخيرة بارتفاع أسعار الغذاء العالمية وتقلب أسعارها المستمر، بما يمكن الحكومة من السيطرة على عجز الموازنة دون التعرض لتقلبات الأسعار العالمية وثبات أسعار الخبز والتخلص من الدعم الذي تقدمه لبعض المستهلكين حاليا.
ويكتسب هذا المقترح وجاهته حاليا كونه يأتي متزامنا مع خطوات هيكلة قطاع المشتقات النفطية التي تجري قدما والتي أوكلت لثلاثة من شركات القطاع الخاص مهام استيراد المشتقات النفطية تمهيدا لتحرير أسعار المشتقات النفطية محدودة بسقوف سعرية. وهو ما يستدعي تحديد آلية التسعير التي سيعمل بها والتي يفترض أن تستند إلى أسعار التكلفة المستندة الى الأسعار الآجلة التي يجب أن تتلزم الشركات المستوردة كما شركة المصفاة بشراء مستورداتها وفق آلية تحوط تضمن ثبات الأسعار لمدة طويلة، وليس الأسعار الفورية spot prices كما يتم وفق آلية تسعير المشتقات النفطية المعمول بها حاليا والتي تستند الحكومة إليها في رفع الأسعار على المستهلكين من فترة إلى أخرى. كما أن اعتماد آلية للتحوط من شأنه ألا يؤدي إلى تغيير الأسعار يوميًا على المستهلك لمقابلة التغييرات اليومية في الأسعار العالمية، وهو أمر ستؤدي إلية خطوة التحرير الكامل للأسعار في المرحلة القادمة.
رغم أن التحوط هو أمر معقد ويتطلب خبرات كبيرة ومهارات محددة، والتي يعتقد أنها أبرز الاسباب وراء تردد الحكومة في تبني استراتيجية للتحوط حتى الأن. لا يجب على الحكومة أن تعتمد على البنوك لتصميم وتقييم شكل التعاقد.
يمكن لهذا الأمر أن يكون مرتفع التكلفة، إلا أن شركات البترول التي تعمل في الأردن قادرة على تنفيذ هذه الألية، بل أنه لا يستبعد أنها تعمل بها فعليا حاليا في عمليات استيراد المشتقات التي بدأت بها منذ شهور قليلة. وقد يكون من غير المفضل التعاقد مع بنوك الاستثمار العالمية لتنفيذ عقود التحوط بسبب تضارب المصالح من تولي هذه البنوط لخطط التحوط مع البلدان المنتجة والمستهلكة في ذات الوقت وارتفاع تكاليف التعاقد معها.
ويستمدُ هذا الطرح منطقه من كون عمليات الشراء والتزود بالنفط الخام والمشتقات النفطية والسلع الإستراتيجية تتم بكميات كبيرة تغطي الاستهلاك لفترات طويلة والذي لا يستقيم معه تصور أن تكون عمليات شراء النقط تتم بأسلوب القطعة قطعة، والتي لا يمكن لها أن تتم دون تبني إستراتيجية عقود الشراء الأجل أو أي من أدوات التحوط المالي بما يمكن الفوز بجملة المنافع التي ذكرت وتعزيز الإصلاح المالي واحتواء تأثيراته واستقرار الأوضاع المالية.
خلاصة القول، بأنه لن يفيد التحسر على فرصة أهدرت قبل سنوات، طالما أنها أضحت سانحة من جديد ويمكن استغلالها.
* اقتصادي وباحث jamalmasr@hotmail.com