هل أَلْسِنَةُ الْخَلْقِ أَقْلامُ الْحَقِّ !
أ.د. خليل الرفوع
22-11-2018 12:13 PM
هي عبارة يتداولها الناس فيما بينهم وبخاصة في أيام الانتخابات والتزكيات الاجتماعية وغيرها ، وأذكر أن أول مرة قيلت لي كانت من مُرَشِّح لمجلس النواب حينما زكى نفسَه ولم يزكهِ أحد ؛ فيلخص حياته الواقعية بهذه المقولة :"
ألسنة الخلق أقلام الحق " ، ولا يُدْرى مَنْ هم أولئك الخلقُ ، وما هي طبيعة ألسنتهم ، وعن أي حق تلك الأقلام التي تمارس الكتابة عنه ؟ والحقُّ أن العبارة هي لأحد الصوفيين الذين يمارسون طقوسَهم الجسدية ابتغاءَ مرضاة الله حينا، وابتغاء مرضاة الناس حينا آخر ، ولعل بعضهم يظن أن ما يقوم به من حركات تعبدية تُـرَقِّيه ليكونَ عند الناس محمودا مُبَجَّلًا ، فيأتي كلام الناس معبِّرا عن تلك التصرفات ليزيد صورتَهم تبتلا وخشوعا فيقبلَ الناسُ أو الخلق عليهم وعلى طقوسِهم وعلى رهبانيتهم التي ابتدعوها وما كتبها الله عليهم . فالعبارة من حيث الدلالة غير صحيحة ، ويطيب للبعض أن يردفها بالحديث النبوي ، ونصه ، عن أنس بن مالك ، قال: مُرّ بجنازة فأثنيَ عليها خيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبتْ وجبتْ وجبتْ ، ومر بجنازة فأثني عليها شرا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، قال عمرُ رضي الله عنه فدًى لك أبي وأمي ، مُرَّ بجنازة فأثني عليها خيرا، فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شرا، فقلت: وجبت وجبت وجبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنةُ ، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النارُ ، أنتم شهداءُ الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض. رواه مسلم.
والحديث كما نرى يتحدث عن رجلين قد ماتا ، وأن الذين قد أثنوا خيرا أو شرًّا هم الصحابة الكرام الذين شهد لهم الرسول عليه السلام بأنهم شهداء الله في الأرض ، والأهم من ذلك أن ذلك المجتمع كان بسيطا ، فكل امرئ منه معروف ، مكشوفة أحواله وأعماله وأخلاقه لا يسترها ساتر عن عيون الناس ولا يحجزها حاجز، مجتمع بسيط وحياة بسيطة وعلاقات واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض ولا اضطراب .
ثم إن الحديث لا علاقة له بالعبارة التي عُنوِنَ بها المقال وبخاصة في مجتمعاتنا المعاصرة التي شُغِل الناسُ فيها بِأقوتهم وأرزاقهم وتكاد تختفي فيها مظاهر الثقافة الاجتماعية المباشرة ، ومعرفة حياة الناس سواء أكانوا أولي قربى أم جيرانا أم أصدقاء ، فلناس أسرارهم وأحوالهم التي لا تظهر لغيرهم ، وربما لا يعلم الوالد ما يفعله ابنه أو زوجه ، ثم إن تلك الألسنة قد تتحول إلى أقلام مدادها من الباطل تقول في الشخص نفسه ما لم يقله مالك في الخمر.
إن كثيرا من تحولات الحياة نفجأُ بها كل يوم في زمن المكائد والنمائم والضغائن والغرائب ؛ فقد يُـصَدَّقُ الكاذبُ ويُخَوَّن الصادق ، وقد تجد كثيرا من القلوب بيعت بثمن بخس لموقف لو قالت كلمة الحق حينها لأعيدت الحقوقُ لأصحابها ، وحسبنُا أن نرى بعض الناس يجامل مسؤولَه طالما بقي في منصب وفي أول لحظة من رحيله يُـلْوِي لسانَـه عليه بالباطل ، ففي أي الموقفين كان لسانُـه لسانَ حق ؟ وحسبُنا كذلك أن نرى بعيوننا ونسمع بآذاننا من أجمعَ الناسُ على صلاحه وحجه وصلاته وبره وتقواه وإذ بنا نراه غير ذلك بعد أن يُقدم في الجاهات والعطوات والانتخابات وقد تصيَّدَ ما تصيد من ألسنة وثناء ولو وُضِعَ في ميزان الحق لمَـا وزنَ حبةَ خردل ، ألسنةُ الناس في أحيان قليلة إن خلَت من النفاق هي أقلام حق ، وفي أحيان كثيرة إن مُلئت نفاقا فهي أقلام باطل . وأي الناس تصفو مشاربه ؟ ومن كان منا بلا خطيئة فليرمِ غيره بحجر، ومَنْ أظلمُ ممن قوَّلَ الناسَ ما لم يقولوه وجعلهم ملائكة أو أشباهَ ملائكةٍ وهم غير ذلك ، فقد تكون ألسنةُ الخلقِ أقلامَ حق كما أنها قد تكونُ أقلامَ باطل ولكلٍّ شرعةٌ ومنهاجٌ ، وفي ذلك يقول المتنبي :
ومـن صَحِـبَ الدُنيـا طَـويلاً تَقَلَّبَـتْ عـلى عَينِـهِ حـتَّى يَـرَى صِدْقَها كِذْبا