لا تزال الأمة تعيش هبوطا حادا في السلم الحضاري ابتداءا من سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية 1924 واحتفال أوروبا بذلك الأمر، وتزامن ذلك مع الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، وما قدمه من تسهيلات للهجرة اليهودية لفلسطين، انتهاءا بإعلان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 وطرد الفلسطينيين من أراضيهم مستخدمين كل أساليب البطش والترهيب فيما عرف بالنكبة الفلسطينية، واكتمال احتلال كل فلسطين عام 1967 فيما عرف بالنكسة.
كانت الدول العربية الحديثة في بداية نشأتها بعد استعمار الغرب لها وحصولها على الاستقلال لا تملك القوة اللازمة للدفاع عن نفسها فضلا عن التفكير في تحرير فلسطين بما تملكه من أهمية إسلامية وتاريخية بالغة للأمة المحمدية، لكن المواقف الرسمية والشعبية للعرب والمسلمين كانت مجمعة على أن تحرير فلسطين كلها من البحر إلى النهر هو أمر حتمي لا جدال فيه، بل إن الفتاوي الشرعية لعلماء تلك الفترة كانت قد أجمعت على أن الجهاد في فلسطين هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، و لم يكن مقبولا في تلك الحقبة التحدث عن سلام مع الصهاينة المحتلين لفلسطين، وكان تحرير فلسطين مسألة وقت لا أكثر.
ومع تقادم الزمان أصبح التقرب للصهاينة بمعاهدات سلام بحجة عدم امتلاك القوة العسكرية اللازمة لمواجهة دولة الكيان الصهيوني أمرا واقعا أقبلت عليه الأنظمة العربية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية سابقا، وفي ظل السلام المزمع ازداد الاستيطان كالسرطان، وازداد تهويد القدس واعتقل المقاومون الفلسطينيون من قبل السلطة الفلسطينية وضيق عليهم في عدد من الدول العربية، وحاليا بدأ البعض يتهمهم بالإرهاب لأنهم يقاومون كيانا غاصبا محتلا لأرضهم.
كانت تهمة الإرهاب في حق المقاومين الفلسطينيين تصدر من قبل الولايات المتحدة ومن دار في فلكها، ثم أصبحنا نسمع دولا عربية تتهم المقاومين بأنهم إرهابيون.
بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في إعلان صريح من الولايات المتحدة أن القدس عاصمة لدولة إسرائيل والذي لم يكن ليحدث لولا تواطؤ دول عربية كبرى لا مجال لذكرها في هذا المقال فيما عرف بصفقة القرن والتي كشفت أطرافها ومساعيها للأمة جمعاء، ورغم أن هذا الاعتراف لم يشمل معظم دول العالم التي اعتبرت القدس الشرقية محتلة من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي حسب مقررات الأمم المتحدة ومجلس الأمن السابقة بالإجماع، لكن الصهاينة بدؤوا باستغلال الاعتراف الأمريكي بيهودية القدس ليتم التحرك عمليا على الأرض نحو تهويد القدس الشرقية من خلال الأحداث الأخيرة التي نتابعها في منطقة الخان الأحمر في مدينة القدس، وكما هو معلوم فإن سيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلي على قرية الخان الأحمر ما هي إلا خطوة أولى للسيطرة على ألف كيلومتر مربع تمتد من مناطق القدس الشرقية المحتلة إلى منطقة الأغوار، وهو ما يعني شق الضفة الغربية نهائيا إلى شقين، مضيفا أن ذلك ينهي أي احتمال مستقبلي لقيام الدولة الفلسطينية، إضافة لذلك فإن الاحتلال الإسرائيلي يريد أن يبني مستوطنات جديدة على أنقاض الخان الأحمر ليقوم بتطويق مدينة القدس بالكامل ويعزز الكثافة السكانية اليهودية على حساب الوجود العربي الفلسطيني المتضائل في مدينة القدس.
ويحصل ذلك أمام صمت عربي واسلامي مؤسف من دون ممارسة أي ضغط من قبل الدول العربية الكبرى على صانع القرار الأمريكي بل ومباركته سرا كما قلنا كتبعات لصفقة القرن، إلا من بعض الأصوات الشريفة ونذكرها اعتزازا، فالصوت الهاشمي كان الأبرز في رفض تهويد مدينة القدس ممثلا بجلالة الملك عبدالله الثاني الذي قال: لن أبيع القدس ولو بمليار دولار.
إضافة لدول عربية وإسلامية أخرى، فالقدس لا تقدر بثمن، ونحن نثمن تلك المواقف التي تكتب في التاريخ بماء الذهب، فالتاريخ سيكتب من نصر القدس ومن خانها وباعها، وحصل ذلك سابقا في فترات ضعف المسلمين في حقبات سابقة عندما سلمت القدس للصليبيين.
إن إثناء الإدارة الأمريكية عن قرارها فيما يتعلق بمدينة القدس يحتاج جهدا أكبر وسعيا أكثر، للأسف فإننا نرى الأزمات تعصف في منطقة الشرق الأوسط بشدة، فالأمة ممزقة القرار مبتورة الأوصال، تسودها الخلافات، وإيثار المصالح الشخصية، لقد وصلت الأمة لحال لا تحسد عليه من التشرذم والخلاف والفساد والفقر والتبعية، ومع ذلك فإن أملنا بالله كبير جدا في أن يكون بعد هذا الظلام الحالك فجر ونور ونصر لهذه الأمة، وأهل فلسطين لا يدخرون جهدا في الذود عن أرضهم في القدس والضفة وغزة وفي المهجر رغم قلة الحيلة والدعم اللازم للصمود والثبات.
أهل فلسطين ينتظرونكم يا أحفاد عمر بن الخطاب، ويا أحفاد صلاح الدين الأيوبي، وإننا واثقون بأن هذه الأمة ستنفض الغبار عن نفسها مرة أخرى وتتوحد وتستقل بقرارها بعيدا عن العباءة الأمريكية وسنقاتل الصهاينة وسنكنسهم من فلسطين، وسندخل القدس فاتحين، ألا إن نصر الله قريب.