بدءا، لنستذكر أن الطبيعة البشرية مجبولة على الاختلاف والتنوع؛ فما البشر الا شعوب وقبائل مختلفة العادات والمعتقدات تتعارف وتتآلف، وعليه فإن الأصل أن لا يشكل الاختلاف تهديدا ولا أن يثير مخاوف، والأصل هوعدم الشعور بالذعر بسبب الاختلاف في الرأي والأفكار.
أما الوحدانية المطلقة فهي من صفات الخالق، على عكس صفة البشر وهي التعددية والاختلاف.
في رحلة السعي إلى تقبل الآخر مراحل عديدة تبدأ بما يسمى بمرحلة الإنكار للاختلاف وهي مرحلة نقص الوعي وعدم الاعتراف بوجود الآخر المختلف وعدم تقبل فكرة وجود طريقة مختلفة للعيش والتفكير وبالتالي لا يوجد مشاعر أو افكار تخص الآخر بسبب عدم الاعتراف بوجوده.
حيث ينشغل الفرد بتفاصيل حياته اليومية الضرورية ولا يملك رفاهية التفكير بالآخر واختلافاته مثل الاقليات التي تعيش في مجتمع ما ولا تتعلم اللغة ولا العادات بسبب الانغلاق وعدم الحاجة للتعامل مع الآخر إلا من خلال ممارسات محدودة جدا ذات هدف وظيفي وليس اجتماعي أو ثقافي.أو مثل الأفراد الذين يعيشون في بلدة محدودة ومغلقة وليس لديهم الاهتمام بالتعرف على ماهو خارج هذه بلدة لأن ذلك لا يلبي حاجة لديهم.
أما المرحلة التي تليها فهي مرحلة القطبية أوالإقصائية, حيث يرى الشخص أن الآخر المختلف القادم من الثقافة المختلفة مخطىء دائما. وحيث ان الاقطاب لا تتلاقى؛ فإن هذه المرحلة هي مرحلة تضارب وتعاكس يظهر فيها الأنا مقابل الآخر ونحن مقابل الآخرين.
مرحلة تتسم بالعدوانية والدفاعية وشيطنة الآخر. وهذه المرحلة من أخطر المراحل، ولكنها ايضا كباقي المراحل مرحلة لا بد من المرور بها عند المعظم والخطورة تكمن في عدم القدرة على تخطيها والعبور الى المراحل التي تليها.
من أبرز الأمثلة على هذه المرحلة هو الفكر التكفيري الإسلامي الذي يرى الحقيقة والنور محصورة في فئة معينة من البشر ويتناسى هذا الفكر سماحة الدين والفكر الاسلامي وعدله و إحتضانه لجميع الاعراق والاصول والعديد من المذاهب والأديان. حيث لم يكن الإسلام يوما دينا نخبويا او اقصائيا بل على العكس فقد آخى الاسلام بين جميع المسلمين وضم تحت راية الدولة الاسلامية مذاهب وأديانا وأعراقا مختلفة.
وتقسم مرحلة القطبية إلى نوعين الأول هو الدفاعي والثاني هو العكسي.. الدفاعي يظهر عندما يبدأ التفاعل مع الآخر ويبدأ الحكم على الآخر بصورة سلبية حيث يرى الشخص نفسه متفوقا ويرى ثقافته هي الفضلى.
والنوع الآخر هو عكس النوع الأول؛ حيث يتبنى الشخص وجه نظر الثقافة الأخرى ولكن ليس بالطريقة الحميدة التي تعكس قبول الآخر بل بطريقة عدائية ودفاعية في وجه ثقافته الأم وأفرادها.
فالذي يحصل هو تحول من الدفاع عن الثقافة الأم الى مهاجمة الثقافة الأم والانضمام إلى ثقافة آخرى مثل الأشخاص الذين ينتقلون للعيش في بلدان ذات حضارة مختلفة ويضحوا مفتونين بالحضارة الجديدة مع العداء لحضارتهم الأصلية.
ومن ثم تأتي مرحلة التغاضي عن الاختلافات وهي قفزة كبيرة بعد مرحلة القطبية المرهقة وتعكس رغبة حقيقة في عدم الحكم على الآخر بالرغم من أنها لا تزال تنفي قيمة وأهمية التنوع.
تعتبر هذه المرحلة مريحة جدا حيث يكون التركيز فيها على الصفات المشتركة. وتتصف هذه المرحلة نوعا ما بالبساطة، حيث يركز فيها الشخص على الأمور المتشابهة بينه وبين الآخر التي تجلب السعادة والراحة ولا يرى من الاختلافات الا السطحية والبسيطة منها. حيث تسود فكرة جميعنا بشر وفكرة جميعنا نريد العيش بسلام والعالم قرية صغيرة .
ومن أهم الأمثلة على مرحلة التغاضي عن الاختلافات المؤاخاة بين المهاجرين والانصار في المدينة المنورة, حيث تغاضوا جميعا عن اختلافاتهم وركزوا على وحدة الدين الجديد الذي يضم تحت مظلته كل من آمن بالله وصدق نبيه.
وبعد المؤاخاة رأينا من الصحابة المسلمين من مضى في رحلة قبول الآخر بشكل إيجابي لدرجة قبول تقاسم الممتلكات والورثة وانتقل الى عقلية القبول الفعلي للآخر مع الوعي التام بالاختلافات.
وبعد ذلك يبدأ التطور نحو القبول الفعلي للآخر باختلافاته بعد تلك المراحل الثلاث السابقة التي تمحورت حول الذات. المرحلة التي يبدأ بها قبول اختلافات الآخر تدعى مرحلة القبول حيث يستطيع الشخص رؤية الاختلافات الحقيقة التي تمس المعتقدات والإيمان وطريقة التنشئة والقيم والسلوكات.
والقبول هنا يعكس قدرة الشخص على فهم نفسه و إحترام الاختلافات ومراعاة الفروق التي تحكم كل شخص. في هذه المرحلة يتضح النضج حيث يتمكن الشخص من تعريف الاختلافات وفهمها واحترامها وتقبلها ويصبح لدى الشخص الوعي الكافي بالاختلافات التي لا يعرف كيف يتصرف ازاءها. و تمثل الآية الكريمة (لا إكراه في الدين) جوهر قبول الآخر حيث ينتفي وجود الإكراه تماما في الدين مما يعني التعددية والتنوع والحرية الدينية والفكرية.
أما آخر مرحلة في تقبل الآخر فهي مرحلة التكيف, حيث تأتي هذه المرحلة بعد القبول بوجود الاختلاف حيث يظهر التقدير للاختلاف وجواز أخذ النافع والمفيد ومزجه مع السلوكات والقيم الموجودة أصلا حتى يصبح جزءا من المنظومة وأحد عناصرها الذي تعرف به. ومن أهم الأمثلة على مرحلة التكيف هي حركة الترجمة الإسلامية خلال الخلافة العباسية في القرنين الثاني والثالث للهجرة. حيث عهد إلى المترجمين بترجمة أهم المؤلفات اليونانية إلى العربية مما أدى الى الانفتاح على الحضارات الاخرى والتوسع في المعارف مما أثرى الحركة الثقافية والعلمية في ذلك الوقت فقد قدمت حركة الترجمة فرصة حقيقة للتعلم والإنفتاح على اللامألوف والجديد.
تغيير بسيط في طريقة الفهم والتفسير للأفكار الجديدة وغير المألوفة تمكّن الانسان من معارف جديدة وفهم جديد لأمور يجهلها. فالإنسان في عملية تعلم مستمر وبناء لمعاني جديدة وهدم لمعاني قديمة وبالية حيث الإطلاع على التفاسير والفلسفات المختلفة يعتبر اداة للوصول الى المعرفة التي لا يملكها شخص واحد بل هي كامنة لدى الجميع.
عودا على بدء, العنف والمنع والتكميم والاقصاء ما هي إلا بعض الممارسات الناتجة عن الثبات في مرحلة القطبية. حيث أن العدوانية الكامنة في هذه المرحلة تدفع الأشخاص للتصرف بعداء بلا وعي منهم أن الاختلاف ليس تهديدا ولا شرا.
أدعوهم للتأمل والتفكر بأنفسهم وقيمهم أولا، وفهمها وإدراكها، ومن ثم دراسة الآخروفهمه وفهم اختلافاته. أدعوهم للمعرفة والتخلص من رهاب المجهول لعلهم يسمون إلى المراحل الأخرى ويصلون إلى السلام والأمان, لعلهم يفهمون ولعلهم يتقون.