مكالمة من الصف العاشر أ ..
المهندس انس الازايدة
20-11-2018 11:54 PM
- السلام عليكم
- و عليكم السلام و رحمة الله
- انس قطيش ؟ ( لم ينادني احد بإسم الجد منذ عقود )
- نعم ، انا انس
- انا الاستاذ علي العناتي
(بعد ان سمعت الاسم و في ثانية صمت ، لم أعد جالساً في بيتي في عمان ؛ أخذتني آلة زمن في خيالي الى ربع قرن او يزيد موغلاً في الماضي ، بداية التسعينات ، على المقعد الثالث جهة النافذة المطلة على حي الملالطة في الصف العاشر أ في مدرسة مأدبا الثانوية ، يجلس امامي طارق الجمعاني المشاغب المحبوب و سامر دعباس المجتهد المتذمر من الدراسة ، و أمامهم في المقعد الاول ، سميح ابو طربوش المنافس الشرس على الترتيب الاول و ايمن العناني الفتى المحبوب الرائق ، في الخط الأوسط رافع العرواني ذلك الذي كنّا نشعر انه يكبرنا ب عشر سنين لرصانته و قلة مزاحه ، رأيت عمر الأسمر صديق الطفولة المبكرة بوسامته و سمرته ، عدنان الأمين بشهامته ، بكر المعايعة برجولته المبكرة ، صالح الحلايبة الهاديء المجدّ ، (في تلك الثانية اشتقت لهم جميعاً ، او قد أكون اشتقت لنفسي وقتها) ، الاستاذ علي العناتي يشرح درس الأحياء الذي نترقبه منذ ان تسلمنا كتبنا لحساسية موضوعه حسب ثقافتنا حينها ، أسلوبه يسمح لنا ببعض المزاح في أسئلتنا لكنه يجعلنا نفهم المطلوب بصورة ممتازة ، طارق الجمعاني يسأل أسئلة بعيدة عن العلم قريبة الى الاستهتار ، نضحك جميعاً و يبتسم الاستاذ )
- كيف حالك يا بني ( انتبهت على صوت الاستاذ من سماعة هاتفي يعيدني الى شيبي و بيتي )
- حياك الله استاذي العزيز ، أعادني اسمك صبياً في لحظة
- انت من طلابي الأعزاء على قلبي ، طلبت رقم هاتفك من اخيك يوسف المعالج الطبيعي ، كنت في زيارة علاجية عنده و حين عرفته تذكرتك و احببت ان اطمئن على أحوالك .
- ما أروعك ، عققناك و لم نبادر بالسؤال فبادرت بالبرّ و انت أهله
- لا فرق يا بني ، أنتم بمنزلة ابنائي و لا زلت اذكركم جميعاً و ادعو الله ان تكونوا بخير دائماً
- جزاك الله خيراً بما تحملت منّا ، و أرجو أن نلتقي قريباً
- يسعدني جداً و انتظر .
- قريباً بإذن الله
- سامحني إن أزعجتك
- سامحك الله يا استاذي ، بل إن مكالمتك هذه أعادت الي بعضاً من روحي المفقودة
- اسمع يا بني ، سيتزوج ابني في بداية الشهر القادم ستكون فرصة سانحة أن نلتقي و تشرفني بحضورك
- شرف لي و بإذن الله نلتقي إن لم يكن في حفل الزواج فسنرتب موعداً
- سأكون مسروراً إن شاركتني
- اشكر لك دعوتك و مكالمتك اللتي كانت كزخة مطر خريفية
- الى لقاء
- مع السلامة
سرح فكري بعد هذه المكالمة مرة اخرى ، تذكرت الاستاذ فايز حجاوي استاذ الرياضيات المميز الذي كان يفاخر بي و يتوقع ان أكون من أوائل المملكة لكني خيبت ظنه ، الاستاذ رائد نخلة ( على ما اذكر الاسم ) مدرس الكيمياء الجديد وقتها و الذي كان يعاني من شقاوتنا ، الاستاذ السعود مدرس اللغة العربية الذي كان يهتم بما اكتب من شعر المبتدئ و يحثني على الاستمرار ، المدير المهيب مفلح بريزات و مساعده البشوش عبد الرحمن المساندة .
رأيت الملعب الاسفلتي للمدرسة ، هناك لعبت كثيراً كرة القدم و لم اتعب ، شاركت في الفريق المدرسي و غبت كثيراً عن حصص الاستاذ عيسى معلوف و الذي كان يحتدّ في نصحه لي حاثّاً إياي على الاهتمام .
كانت اجمل الذكريات هي في طريق العودة من المدرسة الممتد لما يقرب من أربعة كيلو مترات مشياً ، كنّا بضعة عشر صديقاً معظمهم من أقاربي نمشي الهُوَينا من المدرسة القابعة أقصى الجنوب الشرقي للمدينة إلى حي الأزايدة في أقصى غربها ، نمر بالمقطاع و نقف احياناً عند دكان السبعاوي نشتري ( البيبسي )و نشربه واقفين لأن الزجاجة مرتجعة ، نحتسيها مع بسكويت كناري ( الذي ما زال حاضراً حتى يومنا في الدكاكين بسعر زهيد مقاوماً التضخم و اقتصاد الصلعان )، ثم نمر عبر ( حارات المسيحية ) حيث الأشجار في بيوتهم تمد أغصانها خارج الأسوار ليقطف المارّون منها ما نضج من ثمرها ، لم نكن نستأذن في قطفها و كأنها سبيل لأن اَهلها تَرَكُوا الأغصان الخارجة عن السور لم يقطفوا ثمرها و كأنها زكاة الشجر ، ثم نعبر بيوت السوريكي و الحناينة و الحمايدة لننعطف يساراً عند المؤسسة العسكرية و دكان ابي صالح الزينات لنصل مخبز المعيوف الحلايبة حيث يشتري بَعضُنَا الخبز الخارج توّاً مِن الفرن للبيت و نأكل بعض ما ( قحمش ) منه ، ثم ندخل حارة الازايدة ، يتناقص عددنا كلما وصل احدنا بيته ؛ يغادرنا عمر أولاً يميناً نحو الشارع الواصل لبيتهم ثم يدخل بكر المعايعة بيته الواقع على طريقنا و يدخل أبناء الخواطرة يساراً الى ازقة حارتهم العتيقة ، نكمل انا و عدنان و صالح غرباً ثم انا و عدنان وحدنا حيث بيوتنا اخر بيوت مأدبا في أقصى الغرب حينها قبل ان تُبنى بيوت كثرٌ بعدها .
ادخل البيت جائعاً رغم وجبتي الخفيفة عند دكان السبعاوي فقد قطعت مشياً الاف الامتار بعدها ، تقدم امي الغداء و نأكل بنهم و لكن دون شغف لأننا لم نكن ندرك كم كان شهياً طعام أمي فلم نجرب بعدُ اكل المطاعم الا قليلاً .
لا ألبث حتى استعد للذهاب الى ملعب كرة القدم و كأني لم أمش كل تلك المسافة قبل ساعة ، كان الملعب أرضاً مائلة قليلا و في أطرافه بعض الشوك نسحقه خلال اللعب و لا نحس بألم الأشواك في أرجلنا و كأن جلدنا من ( كاوتشوك ) ، حدود المرمى كانت حجرين يفصلها مسافة اربع ( فحجات ) او خمس يقدرّها زياد ، نجتمع و يبدأ تقسيم الفريقين ، المحظوظ من يبدأ الاختيار ليختار فوراً عبد الكريم اللاعب الفذ الذي لو واتته فرصة لكان نجماً ، نلعب و لا نتعب ، يحكمنا غياب الشمس او مناداة الأهل لننهي لعبتنا ، نتشاجر حول كل هدف أو خطأ ثم نعود احباباً .
اعود للبيت و أنجز فروضي و اشاهد التلفاز لساعة على الأكثر أتناول العَشاء و اصلي العِشاء ثم انام بكل جوارحي ، لا اتململ او احلم إلا قليلاً ، ثم نستيقظ جميعاً على صوت أبي يرحمه الله ( يا ولاد قوموا صلّوا ) ، كان صوته الهادئ يكفينا عن أي منبّه فتلك الرهبة و الهيبة للآباء كانت تهزنا هزّاً ، نصلّي و نتجهز و نفطر ثم يبدأ يوم آخر .