على مدى قرون عديدة تطورت العديد من الافكار والمفاهيم المتعلقة بحقوق مواطني الدول وتنظيم العلاقة بين الحكم والمحكومين .يقف في مقدمة تلك المفاهيم: العدالة، المساواة، تكافؤ الفرص، الحرية الشخصية، حرية التعبير، الحرية الدينية، حق الاجتماع دون اذن مسبق ودون رقابة، المساءلة، الشفافية، المشاركة في الحكم من خلال الاحزاب، اللامركزية السياسية والادارية والاقتصادية، وحدة الولاء السياسي، ان لا يزيد العبء الضريبي عن القدرة على الدفع وأن لا ضريبة الا بقانون وأن يبين القانون لدافع الضرائب كيف وأين أنفقت الضرائب التي دفعها، بحيث تكفل حماية الحدود من الاعداء الخارجيين والامن الداخلي وعلى ما ينفع المواطنين في شتى المجالات الحيوية، سواءا من دفع منهم لانه قادر، ومن لم يدفع لانه غير قادر.
وعلى الرغم من البساطة الظاهرة على هذه المفردات، فان تفسيرها وتطبيقها كانا محل تفاعل وتعارض وتراكم فكري شارك فيه ابرز الفلاسفة والمفكرين منذ العصر الذهبي للاغريق ولغاية الان . الا انه وعلى الرغم من هذه الفترة الطويلة جدا، الا أنه لم يتم التوصل الى إجماع، ولم يصبح تفسيرها من المسلمات. مثلا ما هي العدالة؟ ما هي المساواة؟ من المسائل وامام من، والى أي مدى، ما ابعاد الشفافية وما هو سقف الحرية؟ وهكذا .
ولعل خير دليل على عدم توفر اتفاق على تفسير تلك المفاهيم تنوع الاحزاب وتعددها في كافة الدول الديموقراطية. اذ لكل واحد منها تفسيره المستقل الواضح التوصيف. وقد تتسع المسافة بين الاحزاب لدرجة شاسعة كما هي بين اليسار واليمين مع ملاحظة أن اليسار الغربي يقع في الوسط بين اليمين الغربي واليسار الاشتراكي الماركسي. مثال ذلك حزب المحافظين في كل من المملكة المتحدة وكندا واستراليا ونيوزلندا الذي يمثل اليمين في حين ان حزب العمال يمثل اليسار. وفي الولايات المتحدة الامريكية الحزب الديموقراطي على اليسار، والحزب الجمهوري على اليمين. وقد تكون الفوارق اضيق دون تجاوز على الحدود كما هو الحال في الدول الاوروبية متعددة الاحزاب. الخلاصة أن الاحزاب السياسية تتمايز حسب تفسيراتها للمفاهيم التي اوردت بعضا منها، وتكون الفوارق والفواصل بين التفسيرات محددة لا تسمح بالخلط والقفز من جانب الى اخر. ولذلك يستطيع المحلل السياسي العارف الدارس أن يصف برنامج أي حزب سياسي قبل ان يعلن عنه للناخبين في اي انتخابات وبدرجة عالية من الدقة.
السؤال المهم هنا هو، كيف يمكن تطبيق تلك المفاهيم في ظل التباين والتمايز الواضح في فهمها؟ الجواب تقدمه الديموقراطية التي تضمن تداول السلطة بين الاحزاب السياسية من خلال انتخابات حرة ونزيهة حقيقة لا زعما. العملية الديموقراطية تمكن الشعب من اختيار التفسير الذي يفضله، والحزب والحكومة المنبثقة عنه التي تطبقه من خلال برنامج متكامل يغطي اربع سنوات مقبلة، يعلن عنه قبل الانتخابات باشهر، ويتاح للناخبين استيعابه بعد الاطلاع على تفاصيله من خلال وسائل الاعلام ومراكز الدراسات والجامعات والنقاشات العلنية المفتوحة في كل تجمع سكاني. هذا البرنامج يكون ملزما تعاقديا للحزب الفائز، ولا يملك الا ان ينفذه. فالانتخابات في الدول الديموقراطية تجري على البرامج وليس على الاشخاص. الاحزاب تطرح برامجها المحددة وتقترح مرشحيها سواءا للمجالس او لمنصب الرئيس.
الان: ماذا عن "نحن" وما علاقتنا بالكلام السابق؟ لقد تبنى الدستور الاردني مفاهيم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص والشفافية والمساءلة وربط الضريبة بالمقدرة على الدفع وبأن يتم إقرار موازنة سنوية تبين بكل وضوح ايرادات الدولة ونفقاتها بقانون يقره ممثلوا الشعب المنتخبين.
السؤال برسم الاجابة ما المشكلة اذن؟ لماذا وبماذا نختلف عن الدول الديموقراطية في التعامل مع مجموعة المفاهيم او القيم التي ذكرتها في المقدمة. المشكلة خلقها الدستور الاردني نفسه. ذلك ان الدستور الاردني لم يضمن تطبيق تلك المفاهيم، بل على العكس قيد نفسه وهو الاعلى منزلة، بالقوانين التي هي ادنى منزلة منه. لقد اعطى الدستور الضوء الاخضر للقوانين لتحنيطه وتحويل نصوصه الى مجرد أمنيات طيبة. فقد سرد الدستور تلك المفاهيم بشكل مقتضب ودون ايضاح وبشكل متعمد، تاركا مهمة تفسيرها لقوانين لاحقة.
هنا نصل الى مربط الفرس كما يقال. القوانين التي تفسر الدستور الاردني تصدر عن السلطة التشريعية. ومن المعلوم أن السلطة التشريعية تتألف من مجلس النواب ومجلس الاعيان والملك. ولما كان مجلس الاعيان ليس مستقلا في رأيه كما هو معروف، وأن دوره الفعلي هو ان يكون الثلث المعطل في حالات عدم التوافق بين الحكومة وبين مجلس النواب على أي قانون، فإن اسهامه في تفسير الدستور شبه غائب.
بقي مجلس النواب. حتى ولو افترضنا للحظة ان مجلس النواب قد انتجته انتخابات حرة نزيهة، أتساءل، هل يستطيع مجلس النواب، وهل هو مؤهل بتشكيلته المعروفة ان يبحث اصلا عن تفسير للمفاهيم موضوع هذا المقال وكما وردت في الدستور؟
الجواب بالطبع هو النفي المطلق . والسبب هو انه في ضوء عدم وجود احزاب تتقاسم أعداد النواب، فان من الطبيعي أن يكون لكل نائب تفسيره الخاص الذي يخطر على باله او يتوصل اليه بالحدس او من ثقافة عامة غير مؤصلة ولا مؤطرة. في هذه الحال سيتم في المجلس طرح مائة تفسير لكل مفهوم من المفاهيم. هذه الغابة من التفسيرات الطائشة لا تصلح لتتنتج تفسيرا معقولا ومقبولا لمواد الدستور.
بالعودة الى الوضع في الدول الديموقراطية من اجل المقارنة نجد أن برامج الاحزاب لا تأتي من فراغ ولا بالفهلوة ولا يضعها اعضاء الحزب اصلا. فالاحزاب تستعين بجيش من المستشارين من مفكرين واساتذة الجامعات ومراكز الدراسات وعادة ما يمضي المنتسبون للاحزاب سنوات عديدة في النشاطات الحزبية المساندة قبل ان يتاح لأي منهم الترشح لاي موقع. فالحزب لا يأذن للعضو بالترشح، أو لا يتبنى ترشيحه الا اذا كان متيقنا من مؤهلاته وكفائته ومقدرته على تسويق واقناع المواطنين ببرنامج الحزب في مواجهة برامج الاحزاب الاخرى. وهذا يتطلب ان يكون المرشح ضليعا ببرنامج حزبه وبرامج الاحزاب المنافسة. البرامج الفردية لا وجود لها في الدول الديموقراطية، وإن وجدت فإنها لا تنتج حكما. في ضوء هذه الضوابط يقوم المرشح بتسويق نفسه على أنه قادر وملتزم بتطبيق برنامج الحزب اذا فاز.
هذا المقال كتب للنشر بعد أن أقر مجلس النواب مشروع قانون ضريبة الدخل. اطلب من القراء ان يراجعوا ما قيل في جلسات النقاش وما طرح من اراء ويستنتجوا الى أي مدى تركز الحوار على المفاهيم اعلاه وبما يتوافق مع التفسيرات المعتمدة على جبهات اليمين واليسار والوسط، والى اي مدى تتوافق مع دستور البلاد، ام ان مفهوم الجباية والمفاصلة وعرض العضلات والمساومات والصفقات كان سيد الموقف؟ والى أي مدى تظهر النقاشات المام النواب بمبادئ علوم السياسة والاقتصاد والاداره.