استوقفتني نفسي طويلاً وقد دأبت العادة أن نطلق على المناسبة الأجل والأعظم في تاريخ أمتنا الإسلامية، بل وفي فضاء البشرية جمعاء، وأعني بها مولد سيد الكائنات، إمام المتقين وخاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم – مصطلح 'الذكرى' في حين أن استخدام مثل هذا اللفظ وبهذه الكيفية، لا يخلو من إساءة للأدب، فهل تكون الذكرى إلا لشيء نسيناه ونريد أن نسترجعه ونعيد تذكره ! فأنى لنا أن ننسى، وهيهات أن ينسى المُحب حبيبه حيناً من الدهر.
فما أسعدها من أيام، وما أعطرها من مناسبات، تلك التي تتلمسها القلوب العامرة بالتقوى، وتهفو إليها النفوس العاشقة الولهى، مع حلول شهر ربيع الأول حيث تظللنا النفحات النورانية بميلاد خير البرية، فصلى عليك الله يا حبيبي يا رسول الله في يوم مولدك، ما تاق المؤمنون إلى أعلى الجنان، وما هبت النسائم وما ناحت على الأيك الحمائم.
وتعاود الفيوضات الروحانية التي تغلف هذه المناسبة الأغر، لتبعث فينا من الدلالات العظمى والمعاني الكبرى ما يؤكد لنا وللعالم أجمع أن مولد الرسول الكريم محمد بن عبد الله، كان وسيظل ميلاد أمة، وأن إحياء ذكراه العطرة إنما هو إحياء لقيم روحية خالدة، وبعثٌ لحضارة إنسانية رائعة أشرقت بنورها على ربوع الدنيا كلها.
ويشهد بذلك العدو قبل الصديق، والحق ما شهدت به الأعداء، فقد قال الكاتب الإنجليزي الشهير ' جورج برنارد شو' في كتابه 'محمد'، الذي أحرقته السلطات البريطانية : 'لو تولى العالم الأوربي رجل مثل محمد لشفاه من علله كافة، بل يجب أن يُدعى منقذ الإنسانية، إني أعتقد أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تجمع كل الشرائط اللازمة وتكون موافقة لكل مرافق الحياة، لقد تنبئت بأن دين محمد سيكون مقبولاً لدى أوربا غداً، وقد بدا يكون مقبولاً لديها اليوم، ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد يحل مشاكل العالم'، وقال أيضاً :' إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يُسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولى أمر العالم اليوم، لوفق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها'.
فحريٌ بنا أن نجعل من هذه الأيام المباركات، ولنا في سيرته صلوات الله وسلامه عليه الأسوة الحسنة، صفقة رابحة مع الله عز وجل ونبيه المعصوم، خير الأنام وبدر التمام وشفيعنا يوم الزحام، لعلنا نتحرر من أدران النفس والهوى، ولعل أمتنا تتطهر من أمراض الفرقة والشتات، وكل عام وأنتم بخير.