من عرفوا وعاشوا المرحلة التي كانت فيها العائلات تستعمل "البابور" أو "البريموس" كما كان يسمى يعلمون انه كان يمر بمراحل تكون شعلته باهتة وغير منتجة, ولا يمكن ان تطبخ سيدة البيت عليه اي شيء, فضلا عن "الشحبار" الذي يملأ الاجواء وكان هذا حتى قبل اختراع وزارة البيئة.
لكن الى جانب البابور كان هناك أداة تضيع داخل المطبخ كل يوم عدة مرات ولا يكاد احد يهتم لها, لكن عندما يفقد البابور قدرته على العمل ويلوث الاجواء ويعلو صراخ المرأة التي تأخرت في تحضير الشاي او طبخ قلاية البندورة او المجدرة يتذكر الجميع هذه الأداة, ألا وهي "النكاشة" التي تصبح قيمتها عالية, وما ان تعبث في رأس البابور وتزيل الاوساخ او ما يسمى بلغة اهل السياسة العوائق حتى "يهب" البابور قويا وتتقد شعلته وتتحول من اللون الاحمر البائس الى اللون الازرق ويعلن استعداده لاستقبال حتى طبخة الكرشان والروس وليس فقط ابريق الشاي الصغير.
في عالم الحياة السياسية والعامة تكون الحاجة ماسة احيانا الى نكاشة البابور, او ما يسمى في عالم الطب بالصدمة الكهربائية التي تستعمل للمصابين بالقلب احيانا, ونكاشة البابور هذه مهمة سياسيا لأنها تزيل التلوث وتعيد الاعتبار لماكينة الدولة وترفع سوية الاداء وتزيل التشوهات, وأحيانا تزيل الاحتقان الناتج عن مسارات خاطئة او عن تصورات غير سليمة تم بناء مراحل عليها وانتجت حالة غير منتجة وغير فاعلة.
واذا انتقلنا الى امر ذي صلة فإننا في الاردن بحاجة الى خطوات من العيار الثقيل, والحاجة جاءت لأننا ذهبنا الى مسار يجب ان يخضع للمراجعة, والخطوة الاولى الثقيلة هي اعادة المكانة السياسية والدور الحقيقي والحجم الدستوري لبعض المواقع التي دخلت في مراحل اضعاف عبر تغيير المواصفات, وعلينا ان نعترف اننا شهدنا جهدا او لنقل وجهة نظر سياسية لا تؤمن بالحكومات القوية, وترى ان الحل هو حكومات فنية أي بأشخاص موظفين وبالتالي أصاب الموقع ضعف بنيوي وجاء إليه اشخاص بتجارب وخبرات سياسية محدودة ولم يستطيعوا خلال سنوات عملهم ان يقدموا أداء يتناسب مع المواقع, والعبرة لم تكن بالأشخاص بل بمكانة الموقع.
ولعل هذا النهج وصل الى عدة مواقع مفصلية احتلها اشخاص بمواصفات عادية وكان وجودهم فيها سببا في دهشة سلبية لدى الأردنيين, والمحصلة اننا ألحقنا ضررا بمكانة المواقع في ذهن الناس لأن من جاءوا وفق المعادلة الجديدة استفادوا وحملوا الألقاب لكن الضرر لحق بمكانة المواقع.
وهناك ايضا مؤسسة مجلس النواب التي لكل افرادها دوما الاحترام والتقدير, لكن ما يحدث هو التعامل مع كل موسم افراز لمجلس ما ان تكون العقلية هي ذاتها, وهي البحث عن حكومات عادية ومجالس نيابية يمكن ادارتها بسهولة ويمكن استخراج المواقف منها بطرق غير مكلفة سياسيا, بل ان البعض كان يفكر عند مواسم فرز المجالس النيابية بالتركيبة التي تخدم حكومة تعنيه اكثر من اهتمامه بمؤسسة دستورية وأداء يحقق الانجاز.
فرق كبير بين ان يتم التنسيق مع المجالس النيابية بحيث تتفهم اولويات الدولة وقدراتها وتساهم في تعزيز مسار وطني, وبين ان يكون التفكير ببنائها وفق معايير شخصية او معادلات محدودة الافق.
اعتقد ان الخطوة الاولى لأي مراجعة ولأي اصلاح سياسي هو التخلص من طريقة التفكير التي ساهمت في انتاج الحكومات ومجالس ممثلي الناس بحيث يكون الهدف الحفاظ على قوة المؤسسات الدستورية ورفع سوية الدور السياسي والتمثيلي, لأن هاتين المؤسستين هما الاهم في صناعة الطبقة السياسية, فإذا صنعنا طبقة رؤساء ووزراء بمواصفات متواضعة او أفرزنا مجالس نواب وفق اسس ذاتية ولغايات تمرير مراحل فإننا نقدم في الساحة العامة طبقة سياسية قد تؤدي خدمات مؤقتة لكنها تترك آثارا بنيوية بعيدة على بناء الدولة.
نكاشة البابور التي انقرضت من حياتنا مازال نموذجها السياسي مطلوبا بل ضروريا وهي احدى ادوات اي اصلاح في بنية الحياة السياسية والعامة حتى تعود الشعلة قوية زرقاء متخمة بالاوكسجين الذي يضمن الحياة.