مثل عشرات الآلاف من الشباب الأردني؛ أمضيتُ في ثمانينات القرن الماضي، عامين في وحدات القوات المسلحة الأردنية مكلّفاً بخدمة العلم.
أطلق الناس على هذا البرنامج اسم التجنيد الإجباري، وكان سنده القانوني قانون خدمة العلم والخدمة الإحتياطية النافذ والساري المفعول ليومنا هذا.
منذ بداية تسعينات القرن الماضي، توقف العمل بالتنفيذ الفعلي للقانون، ومذ ذاك، توّلت القوات المسلحة تأجيل إرسال الدفعات للتدريب، وأصبح المكلفون مؤجلين بسبب "عدم الإستيعاب".
على مر هذه الأعوام، كانت أسباب وقف تنفيذ القانون مثار جدل كبير، وبابٌ واسع لتقييم آثار هذه التجربة الإجتماعية والإقتصادية، وقد أسند كثيرٌ من الناس أسباب التراجع في القيم وفي الثقافة وفي طرق التعامل مع الحياة بشكل عام لدى بعض الشباب، إلى وقف العمل بخدمة العلم.
طوال هذه السنين، لم تغب هذه الفكرة عند الجهات المعنية في الحكومات وفي القوات المسلحة، ولم تقف الأسباب الموجبة لوقف البرنامج المتعلقة بالكلف الباهظة أو بأسباب أخرى، دون متابعة البرنامج بصور أخرى تختلف عن نظام السنتين القديم، فرأينا تجربة إعادة تفعيل البرنامج لمدة 3 أشهر عام 2007، ورأينا تجربة الشركة الوطنية للتشغيل والتدريب التي تولت مهمة إعداد وتدريب الشباب الأردني على مهن احترافية، بالتعاون والتنسيق مع المؤسسات الحكومية المعنية، وهي تجربة رائدة يجب تعظيم أهدافها وتعزيز وتشجيع الإقبال عليها، بكونها نافذة مفتوحة للشباب نحو سوق العمل المتخم بالعمالة الوافدة في هذه المهن الذين يتقاضون أجوراً عالية.
في سياق الأرقام المرعبة للتخصصات الأكاديمية الراكدة التي تحدث عنها رئيس ديوان الخدمة المدنية مؤخرا، تبدو الحاجة ملحّة للإتجاه نحو التعليم التقني والمهني. لقد بقيت المحاولات نحو تشجيع الإقبال على هذا النوع من التعليم خجولة ودون المتوقع، وعليه، فإن ما تتحدث الحكومة عنه من إعادة العمل بخدمة العلم وفق منظور يوازن بين التدريب العسكري والتدريب المهني، يجب أن يأتي في سياق خطة وطنية لمعالجة الإختلالات في هذا الموضوع.
في النماذج العالمية لخدمة العلم، تتداخل الخدمة العسكرية المحضة مع الخدمة العسكرية والمدنية، وتتراوح بين الإلزامية والإختيارية، وبينما تنص دساتير بعض الدول على إلزامية الخدمة العسكرية، فقد ألغت دول أخرى ذلك، وتتنوع الخدمة بأشكال كثيرة في هذه الدول، لكنها في الغالب تأخذ شكل الخدمة المدنية بأوجه مختلفة.
لا ينبغي أن تؤخذ هذه القضية الوطنية على محمل المناكفات وتسجيل المواقف، والأولى وطنياً أن تعالج هذه التجربة إختلالات المناهج والتدريس، فيما يؤمل الناس أن يروا فيها فرصة لتعزيز منظومة القيم لدى الشباب وأن تعيد عرض المفاهيم السياسية بما فيها الحزبية وفق رؤية وطنية، وأن تستند برامج التدريب على محتوى مهاري وتدريبات عملية، على أن يخضع محتوى هذا البرنامج لأدوات قياس لتقييم أداءه وفق ما خطط له.
لا تبدو مهمة تأهيل الشباب الأردني سهلة في ضوء الثقافات المترسّخة لديهم عن فرص العمل في السوق المحلي، ولقد بنينا في وزارة العمل قواعد لتجاوز الأسباب التي تمنع الشباب من التوجّه نحو فرص العمل المهنية التي يوفرها القطاع الخاص، وقد كانت تجربة رائدة اصطدمت بواقع مرير عن ضعف التأهيل المهني لدى هؤلاء الشباب، وعن تراجع العمالة الوطنية المدرّبة أمام طوفان العمالة الوافدة الذي يقبل بالعمل تحت كل الظروف، لأنه يجدها فرصة سانحة للتدرّب ثم الإستيلاء على الفرص الممكنة.
إن مجرد التفكير بإعادة خدمة العلم، سبب مهم للتفاؤل، لكن الأهم هو أن يأتي هذا البرنامج في سياق جهد وطني متكامل لإعادة مفاهيم تأهيل الشباب الوطني وربطها بالتدريب وإكساب المهارات وتغيير الثقافة نحو التعليم المهني التطبيقي، وبالطبع، إعادة تقييم شاملة للتخصصات الأكاديمية ووقف تلك التي لا يحتاجها سوق العمل.