أكرمنا الله قبل عشرين عاما بالتمام والكمال، بأن سمح لنا جلالة سيدنا وحبيبنا الحسين رحمه الله، كي أزوره ضمن وفد من نقابة الصحفيين، في مشفاه في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك فى مثل هذه الأيام من عام 1988، وتحديداً فى يوم ميلاده الذى يحل فى14 تشرين ثاني, و كانت هذه آخر مكارم الحسين على الصحفيين ونقابتهم فى ذلك الوقت، حيث انتقل بعدها للرفيق الأعلى, وفي أقل من ثلاثة أشهرمن تاريخ زيارتنا له. وفي ذلك قصة يجب أن تروى بعد كل هذه السنين.
فقد اتصلت مع معالي رئيس التشريفات الملكية, وكان وقتها الصديق الأستاذ أيمن المجالي, زميلى منذ الستينات, أيام فترة الدراسة فى الكلية العلمية الإسلامية, وطلبت منه أن ينقل لجلالة الملك رغبة نقيب ومجلس نقابة الصحفيين في زيارة سيدنا فى مستشفى مايو كلينك أو أي مكان آخر فى أمريكا يقرره جلالته. لم يمانع معاليه من نقل المضمون لسيدنا, لكنه قال أن الأمل ضعيف جداً, نظراً لوجود طلبات عديدة من شخصيات و جهات أردنية لم يبت فيها جلالته بعد.
بعد يومين فقط, اتصل معاليه معي ناقلاً الخبر المفرح و السار بموافقة جلالة الملك –رحمه الله - على الزيارة, شريطة أن لا يزيد العدد عن خمسة أشخاص فقط، وطلب أن يتم ذلك بسرعة وأن يكون اللقاء فى واشنطن العاصمة، وليس فى المستشفى الذى يُعالج فيه جلالته, حيث كان جلالة الملك يرتاح فى منزله فى واشنطن بين جرعات الكيماوي.
وقد جهزنا عدتنا للسفر أنا وأربعة زملاء من مجلس النقابة, وأعددنا هدية رمزية عبارة عن كتابات مختصرة من الزملاء والزميلات، أعضاء الهيئة العامة لنقابة الصحفيين، على ورق خاص تم تجميعه بشكل جميل بغلاف مخملي راقٍ, يليق بصاحب الهدية ومقامه الرفيع. وقد عبر الجميع عن مكنون محبتهم الصادقة لجلالة الملك, وتقديرهم العالي لقائد مسيرتنا المظفرة.
فعلاً كانت مفاجأة سارة لنا ولجميع أعضاء الأسرة الصحفية أن يوافق سيدنا على زيارته وبهذه السرعة, متخطياً كل الطلبات الأخرى الموجودة أمامه منذ فترة ليست بالقليلة. إنه تكريم ما بعده تكريم.
قبل الزيارة بيوم واحد كان هناك لقاء لسمو نائب الملك, الأمير الحسن بن طلال فى الجامعة الأردنية مع الأسرة الصحفية والفنانين الأردنيين, وكنت أديرهذا اللقاء، وبعد اللقاء وتناول الطعام, أشعرت سمو الأمير بعزم وفد النقابة التوجه في اليوم التالي لزيارة جلالة الملك في واشنطن.
وقد حمّلنا سموه خالص تحياته إلى جلالة القائد, وأذن لنا بالسفر بعد تردد محدود, وكلف سموه وزير الإعلام معالي الأستاذ ناصر جودة, بأن يضع تحت تصرف الوفد كل إمكانات وزارة الإعلام.
وصلنا إلى واشنطن وكلنا فرح وسرور, كيف لا ونحن سنلتقي بعد ساعات مع قائدنا وملهمنا ومحبوبنا الحسين العظيم. فقد وافق جلالته على أن يتم اللقاء فى السفارة الأردنية فى اليوم التالي لوصولنا, ويشهد على ذلك معالي الأستاذ علي العايد, الذي كان يشغل منصب المستشار الإعلامى فى سفارتنا في واشنطن.
وقد كان اللقاء حاراً ومتجدداً وعاطفياً للغاية مع جلالة الملك الذي استقبلنا فى مكتب معالي السفير الأستاذ مروان المعشر، وامتد اللقاء مع جلالته لأكثر من ساعة, ولم يشاركنا أحد فى ذلك اللقاء. فقد حرص جلالته أن يكون اللقاء مع الوفد الصحفي الزائر فقط. قدمنا الهدية التى حازت على إعجابه, حيث قرأ العديد من الرسائل أثناء اللقاء وسأل عن بعض الأسماء, خصوصاً رموز العمل الصحفي الذين يعرفهم جلالته حق المعرفة.
وقد رأيناه بكامل صحته وعافيته, وقد بدا لنا أن جلالة الملك قد استعاد معظم شعره الذى فقده بسبب جلسات الكيماوي اللعينة. وقد لاحظنا أيضاً أنه لم يفقد الأمل أبداً بعودته للأردن، فقد حدثنا مطولاً عن رؤيته للأردن الذي يريد وأنه سيجرى العديد من التعديلات بعد عودته للبلاد قريباً. وبذلك يكون قد طمأننا على صحته وأنه عائد لمزاولة نشاطه من جديد.
وكان رحمه الله متفائلاً جداً بمشوار العلاج, حيث لم يتبقى إلا جلسة واحدة, تتبعها فترة نقاهة لمدة شهر يعود بعدها للأردن. وطلب منا أن ننقل تحياته إلى جميع أفراد الأسرة الصحفية وأن نطمأنهم على صحته التى كانت فعلاً جيدة, وقد بدا لنا جلالة الملك أنه فى أحسن أحواله.
عدنا إلى عمان, عبر لندن التى توقفنا فيها لتغيير الطائرة وكلنا سعادة بأن منَّ الله على حبيب الأمة بالصحة والعافية, وأنه سيعود قريبا لمزاولة نشاطه المعتاد بإذن الله.
اتصل معى فور وصولنا, معالي وزير الاعلام, طالباً الإيضاح حول خبرٍ منشورٍ فى صحيفة الحياة اللندنية, وعلى صدر صفحتها الأولى, يشير إلى عزم جلالة الملك بإجراء تعديل على ولاية العهد, فورعودته للأردن, وأن الملك أبلغ الوفد الصحفى الذى زاره مؤخرا بذلك، فما صحة الخبر؟
قلت له أننا لم نسمع ذلك من جلالة الملك بأى شكل من الأشكال، وأن حديثه عن إجراء تغييرات وتعديلات في أجهزة البلد, لم يُفهم منه إطلاقا أن يشمل ذلك ولاية العهد. لكن هذا ما تم فعلاً بعد عودته الأخيرة لعمان في الأسبوع الأول من شباط عام 1999. حيث سافر جلالته متعباً مرة أخرى الى مشفى مايو كلينك, فى منيسوتا, وانتقل بعدها إلى جوار ربه فى السابع من شباط, بعد أن اتخذ قراره التاريخي بتعيين نجله الأكبر سمو الأمير عبد الله, ولياً للعهد, وقبل سفره بيوم واحد. وهكذا كان, بأن أصبح سمو الأمير ملكاً هاشمياً جديداً يوم وفاة القائد العظيم.
وهنا يمكن القول بأن هذا الوفد الذى تشرفت برئاسته, كان أول وآخر وفد يزور الحسين, ويحتفل معه بعيد ميلاده الأخير, وأول من تعامل مع خبر التغيير الذى حصل على ولاية العهد, حيث تم بعد ذلك تعيين جلالة سيدنا الملك عبد الله بن الحسين ملكاً للأردن خلفاً للحسين, الذي ستظل ذكراه خالدة فى نفوس الأردنيين الى أن يرث الله الأرض وما عليها.
كانت هذه أبرز ملامح تلك الزيارة, وبالطبع هناك العديد من التفاصيل البسيطة التى لن أخوض فى تفاصيلها فى هذه الفترة, حيث لم يحن الوقت لسردها رغم مرور عشرين عاماً عليها, بالتمام والكمال.
لقد كان فضل الملك الباني جلالة المغفور له الحسين على الأسرة الصحفية كبيراً وكثيراً, ونحمد الله أن جلالة الملك المجدد, عبد الله الثانى بن الحسين, يسير على نفس الخطى والمبادىء والنهج الذى رسمه الوالد العظيم, وبثبات واضح وعزيمة لاتلين, لبناء الأردن الذى كان يتطلع له الحسين, الذى نترحم عليه ليل نهار, خصوصاً فى ذكرى ميلاده الرابع والثمانين, وكل ذكرى قادمة.
وها نحن نقترب من الذكرى العشرين لانتقال المغفور له جلالة الحسين إلى الرفيق الأعلى, ونحن نبتهل إلى المولى عز وجل أن يتولاه برحمته ورضوانه, وأن يلهمنا الصبر والسلوان، وأن يديم فوق رؤوسنا جلالة قائدنا المفدى الملك عبد الله الثانى بن الحسين, أطال الله فى عمره وحفظه سنداً وذخراً للأردن وأهله.
إن احترام وتقدير جلالة الملك عبد الله الثانى للأسرة الصحفية, وفي المقدمة منها نقابة الصحفيين التى تشرفت بتولي رئاستها لثماني سنوات متواصلة, بعد أن توليت منصب نائب النقيب لدورتين متتاليتين أيضاً, أقول أن إحترام ومحبة جلالته للأسرة الصحفية متواصل ومستمر, والشواهد على ذلك كثيرة وعديدة, ولايمكن حصرها فى مقالة مخصصة لباني نهضة الأردن الحديث جلالة الحسين العظيم. ويعرف ذلك كل زملائي وزميلاتي أعضاء الهيئة العامة للنقابة.
وبكل الفخر والاعتزاز يبادل الصحفيون جلالة مليكهم المفدى كل معاني المحبة والتقدير والاحترام, حيث تتلاقى أهداف الجميع فى خدمة الوطن الغالى وغاياته النبيلة، وشعبه الوفي الصامد المرابط فى وجه كل التحديات.
رحم الله الحسين الباني وأطال الله فى عمر مليكنا عبد الله الثاني.