لم يخرج خطاب جلالة الملك في احتفال تسلّمه جائزة تمبلتون عن إطار سعي جلالته الدائم نحو الدفاع عن الإسلام. ذاك نهجه منذ أن ألصقت هجمات الحادي عشر من سبتمبر بالإسلام، ومنذ أن أصبح المسلم في صالات المطارات هدفاً مشروعا للإعتقال، وأضحى لبس الثوب وإطلاق اللحية وسماً بالإرهاب.
شهدنا في الأردن قلقاً غير مبرر تمثل في عدة شواهد قادت الناس نحو جدلية النقاش وتراشق الإتهامات في مفاهيم الدين وحدود الحريات. لقد كانت محاولات لاستثارة الذين يبحثون عن نوافذ للدخول نحو النسيج المتين.
لسنا بحاجة للدخول في أنفاق معتمة. ومكونات هذا النسيج الوطني واضحة المعالم منذ أمد بعيد، بل ويعلمها الجميع. نعم دين الدولة الإسلام، لكنه ليس إسلام الخوارج ، ولا إسلام الإقصاء، ولا هو ما يفهمه المتنطّعون. إنه الإسلام الذي فهمناه من الصحابة وهو الإسلام الذي نقلته سيرة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الوسطية والإعتدال، وهو الإسلام ذاته الذي قبل أهل الذمة أخوة وأهل، وحقن دماؤهم وصان أعراضهم وأموالهم.
قرأ جلالة الملك على العالم في احتفال الجائزة هذه الثوابت. أعاد الحديث عن أعمدة سياسة الدولة في قبول الآخر وأطلق مجددا الدعوات لكلمة السواء وللحوار بين الأديان. هذا نهجه الذي أهّله ليكون المتحدث الوحيد الذي يوصل صوته المسموع في الغرب، والوحيد الذي ينتهز كل الفرص في الحديث عن القدس وعن فلسطين وقضيتها.
استثمر جلالة الملك خطابه في توضيح رسالة الأسلام العظيمة لكنه أسهب في تفسير معنى الجهاد. إن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس وحملها على أن تتخطى قيود الكراهية ورفض الآخر ونكران قيم التسامح والعيش المشترك.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ ).
خطاب جلالة الملك مختلف، لكنه مشيٌ على القواعد الأساسية لرسالة الإسلام، دين العقل ودين الحياة لا دين القتل ولا الهمجية.
إن أهم ما تشير له كلمات جلالة الملك، هو أن الناس في العالم أمام فهمٍ جديد لهذا الدين العظيم، فهمٌ يؤسس لحياة مشتركة مبنية على قواعد الحوار والسلام والرخاء.
في الجانب الآخر، كان جلالته سفير السياحة الأول. لقد قدم الأردن كما لم يُقدّم من قبل. لقد دعا المؤمنين من أنحاء العالم للحج في هذا الوطن المقدّس، وطن الأنبياء والصالحين، مُرحّبا بهم بكل تقاليد الضيافة الأردنية العريقة، نعم هذا الوطن مقدّس بأن وطأ الأنبياء ترابه، عبروا وتركوا لنا إرثا إنسانيا خالدا..
تقاسم جلالة الملك الجائزة العالمية مع الشعب الأردني الذي يعيش ذكرى ميلاد الحسين، وقد تذكروا مواقفه الخالدة وهم يرون جلالة الملك يبتدىء حديثه عن فجيعتين أودتا بأرواح نبيلة، ولم يفوّت فرصة الظهور العالمي ليتحدث عن نبل الأردنيين وشهامتهم ونخوتهم وفزعتهم، هذا ليس سوى شأن النسيج الذي بناه الهاشميون في وطن الإعتدال والمواقف الإنسانية والعروبية ذات التاريخ المشرّف.