إذا مِتُّ ظمآنًا فلا نزلَ القطرُ
أ.د. خليل الرفوع
15-11-2018 12:32 PM
هذا عجز بيت من قصيدة للشاعر أبي فراس الحمداني ، شاعر توفي سنة 357هـ / 968م ، وهو ابن عم سيف الدولة الحمداني أمير إمارة العباسية التي كانت تشمل ما يُعرف اليومَ بشمال سوريا وأجزاء من شمال العراق ، وكانت عاصمتهم حلب في القرن العاشر للميلاد ، وينتمي لقبيلة تغلب المعروفة التي بلغ من قوتها أن قال فيها اللغوي النحوي المعروف أبوعمرو الشيباني : لو تأخر الإسلام لأكلت بنو تغلب الناسَ ، ومن شعرائها في الجاهلية : المهلهل ( الزير سالم ) ، وعمرو بن كلثوم حفيدُ المهلهل وصاحب المعلقة المشهورة :
ألا هُبَّي بصحنِك فَاصْبِحِيْنَا ولا تبقي خُمُورَ الأنْدَرِينا
وفي العصر الأموي برز الأخطل التغلبي المعروف بنقائضه مع جرير والفرزدق ، ومن فروع هذه القبيلة في عصرنا ثلاث أسر تحكم ثلاثَ دول عربية معروفة .
والبيت الشعري الذي أُخذ منه ذلك الشطر هو قول أبي فراس :
مُعللـتي بـالوصـلِ والـمـوتُ دونهُ إذا مِـتّ ظَـمْآناً فَلا نَـزَل الـقَـطْرُ!
والبيت من قصيدة مشهورةٍ مطلعها :
أرَاكَ عَـصِيَّ الـدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبـرُ أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ
وأغلبُ الظن أن الشاعر قال هذه القصيدةَ وهو في أسر الروم مخاطبا ابن عمه الأمير سيف الدولة ؛ إذ كان مأسورا في سجون الدولة البيزنطية ، ولعله قُـِتلَ من بعدُ في إحدى معاركه معهم .
في هذه المقالة الأدبية تتشابك المعاني في قصيدته لتظهرَه للقارئ شاعرا فارسا قائدا لا يمكن أن يكون مكانُه إلا في الصدر أو في القبر ، وهو البدر الذي سيفتقدُه قومه في الليلة الظلماء ، ويتساوى عنده الفرارُ والردى فأحلاهما مرٌّ، لأنه وقبيلتَـه أعـز مَنْ في الدنيا ، وهو القائـدُ والعاشق والشاعر معًا ، ولا شك عندي أن القصيدة كانت خطابا لسيف الدولة كي يفـكَّ أسرَه وقد فعلَ ، لكنَّ ما يلفت فكرَ القارئ لهذه القصيدة هو قوله : إذا مِتُّ ظمآنًا فلا نزل القطرُ ، وهي مقولة واقعية آمن بها الشاعر فنيَّا أو لنقلْ خياليا لأنه عُرِفَ بنزعته القتالية للروم ومنافسته الشعرية لشعراء البلاط الحمداني وفي طليعتهم الشاعر العظيم المتنبي ، وقد مات أبو فراس محاربا في أرضِ الروم، تلك كانت رؤية أبي فراس في لحظة فنيَّة تخيُّـليةٍ تطغى فيها الأنا المحاربة ، لكن كثيرا من الناس يطبقها واقعا مشهودًا في حياته ، معبِّرا عنها بالمقولة المشهورة ( أنا والطوفان من بعدي ) وهو قول فرنسي منسوب إلى مدام دي بومبادور، عشيقة ملك فرنسا لويس الخامس عشر أرادت من خلالها رفعَ معنوياته بعد معركة ( روسباخ ) ، بدعوتها إلى عدم التفكير في العواقب التراجيدية للهزيمة . فكلا المقولتين قيلت في أجواء الحرب لتضخيم الأنا في مواجهة الآخر عدوًّا ورفيقًا ، وهي كذلك حالة نفسية تعبر عن توتر درامتيكي يدفع صاحبه للإقدام غير مهتم بعواقب المعركة ما دام أنه سيدُ تلك اللحظة الحربية ، ليحققَ التوازن النفسي بين دعوتين متضادتين : إحداهما مندفعة والأخرى منهزمة .
في زمننا وفي كل زمن هناك مَنْ يؤمِنُ بهذه المقولة سبيلا حقيقيًّا عليها يعيشُ وفي سبيلها يترفَّـعُ ويترقي ، يقدِّمُ نفسَهُ وهناك مَـنْ يستحق التقديم عليه بَـيْـدَ أن تضخمَ الذات تكبِّرُه ليصلَ إلى قمة النرجسية ، لا يعبأ بوطن أو أمة أو إنسانية ، لا يبالي بغيره فإمَّا هو وإما الخراب ، إما هو وإما الدمار ، وقد عبَّر القرآن عن أولئك المفطورين على تضخيم أنفسهم في حالتي الرضا أوالسخط في الأعطيات المالية ، يقول تعالى مصوِّرًا ما في قلوبهم وما يقولونه بألسنتهم : ( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( التوبة58 .
فاللمزُ يعقبه السخط ، وهما حالتان تعبران عن نفاق متغلغل في نفوس الفاسدين الذين يحسبون أنهم أعلى مرتبةً ، وأنهم قد خُلِقوا ليكونوا خيرا من غيرهم ، لا يرضون إلا بالمناصب الرفيعة والقناطير المقنطرة من الأموال ولو نُهِبَتْ من حقوق غيرهم ، فلا حلال إلا ما تحله لهم أنفسهم ، وإذا ما أُجْبِرُوا على ترك مناصبهم أو مراكزهم فإذا هم يسخطون على الوطن فيخرجون من دفاترهم كُلَّ أخطاء مَنْ عقبهم وتولَّى من بعدهم ، وقد صمتوا من قبلُ وهم في مواقع المسؤولية على أخطاء وخطايا ، كان يمكن أن يقبضوا أيديَهم وأيدي من يعرفونهم عن المال العام فيُصْلحوا ، لكنَّ حرصهم على مراكزهم دفعهم دفعا إلى الصمت ، فلم يكونوا شهودا بل كانوا مشاركين فاعلين في الفساد الذي سيصبحون أعداءه مِـنْ بعدُ حينما يُـبْـعَـدون عن عيونه وسواقيه وروافده .
إذا مِـتّ ظَـمْآناً فَلا نَـزَل الـقَـطْرُ دعوةُ مَنْ لا يؤمن بالحياة والخير لغيره ، فما دام يعيش فلينزلِ القطر والغيث والمطر ؛ لأن مخرجاته ينبغي أن تكون له وحدَه ، وإذا ما مات فليكُـنِ القحطُ والخرابُ والموتُ . إنها دعوة الذين يرونَ أنفسهم فوق الوطن وفوق الناس جميعا . وهي دعوة نرجسية انتهازية واقعية نشاهدُها في واقعنا الاجتماعي ، وقد ابْـتُـليَـتْ بها أوطانٌ وأممٌ كان عاقبةُ أمرها خُسْرًا ودمارًا وفناءً ، هم أؤلئك الذين يحبون أنفسهم وينقلبون معارضةً فيعلو نقدُهم لِمَنْ خَـلَـفَـهم ، ويَـسُلُّونَ أنفسهم سلًّا من أخطائهم حينما كانوا في مواقع المسؤولية وقد عبر عنهم فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة الفرنسيين فولتير بقوله : حُـبُّ الذاتِ هو كُرَة منفوخةٌ بالهواءِ ، تخرج منها العواصفُ إذا ما ثقبناها.
ولو أنهم أخلصوا لأنشدوا مع أبي العلاء المعري ، فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة العرب :
فلا هطَلَتْ عليَّ ولا بأرْضي سحائبُ ليـسَ تنـتـظـمُ البلادا