facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss




إذا مِتُّ ظمآنًا فلا نزلَ القطرُ


أ.د. خليل الرفوع
15-11-2018 12:32 PM

هذا عجز بيت من قصيدة للشاعر أبي فراس الحمداني ، شاعر توفي سنة 357هـ / 968م ، وهو ابن عم سيف الدولة الحمداني أمير إمارة العباسية التي كانت تشمل ما يُعرف اليومَ بشمال سوريا وأجزاء من شمال العراق ، وكانت عاصمتهم حلب في القرن العاشر للميلاد ، وينتمي لقبيلة تغلب المعروفة التي بلغ من قوتها أن قال فيها اللغوي النحوي المعروف أبوعمرو الشيباني : لو تأخر الإسلام لأكلت بنو تغلب الناسَ ، ومن شعرائها في الجاهلية : المهلهل ( الزير سالم ) ، وعمرو بن كلثوم حفيدُ المهلهل وصاحب المعلقة المشهورة :

ألا هُبَّي بصحنِك فَاصْبِحِيْنَا ولا تبقي خُمُورَ الأنْدَرِينا

وفي العصر الأموي برز الأخطل التغلبي المعروف بنقائضه مع جرير والفرزدق ، ومن فروع هذه القبيلة في عصرنا ثلاث أسر تحكم ثلاثَ دول عربية معروفة .

والبيت الشعري الذي أُخذ منه ذلك الشطر هو قول أبي فراس :
مُعللـتي بـالوصـلِ والـمـوتُ دونهُ إذا مِـتّ ظَـمْآناً فَلا نَـزَل الـقَـطْرُ!

والبيت من قصيدة مشهورةٍ مطلعها :
أرَاكَ عَـصِيَّ الـدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبـرُ أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ

وأغلبُ الظن أن الشاعر قال هذه القصيدةَ وهو في أسر الروم مخاطبا ابن عمه الأمير سيف الدولة ؛ إذ كان مأسورا في سجون الدولة البيزنطية ، ولعله قُـِتلَ من بعدُ في إحدى معاركه معهم .

في هذه المقالة الأدبية تتشابك المعاني في قصيدته لتظهرَه للقارئ شاعرا فارسا قائدا لا يمكن أن يكون مكانُه إلا في الصدر أو في القبر ، وهو البدر الذي سيفتقدُه قومه في الليلة الظلماء ، ويتساوى عنده الفرارُ والردى فأحلاهما مرٌّ، لأنه وقبيلتَـه أعـز مَنْ في الدنيا ، وهو القائـدُ والعاشق والشاعر معًا ، ولا شك عندي أن القصيدة كانت خطابا لسيف الدولة كي يفـكَّ أسرَه وقد فعلَ ، لكنَّ ما يلفت فكرَ القارئ لهذه القصيدة هو قوله : إذا مِتُّ ظمآنًا فلا نزل القطرُ ، وهي مقولة واقعية آمن بها الشاعر فنيَّا أو لنقلْ خياليا لأنه عُرِفَ بنزعته القتالية للروم ومنافسته الشعرية لشعراء البلاط الحمداني وفي طليعتهم الشاعر العظيم المتنبي ، وقد مات أبو فراس محاربا في أرضِ الروم، تلك كانت رؤية أبي فراس في لحظة فنيَّة تخيُّـليةٍ تطغى فيها الأنا المحاربة ، لكن كثيرا من الناس يطبقها واقعا مشهودًا في حياته ، معبِّرا عنها بالمقولة المشهورة ( أنا والطوفان من بعدي ) وهو قول فرنسي منسوب إلى مدام دي بومبادور، عشيقة ملك فرنسا لويس الخامس عشر أرادت من خلالها رفعَ معنوياته بعد معركة ( روسباخ ) ، بدعوتها إلى عدم التفكير في العواقب التراجيدية للهزيمة . فكلا المقولتين قيلت في أجواء الحرب لتضخيم الأنا في مواجهة الآخر عدوًّا ورفيقًا ، وهي كذلك حالة نفسية تعبر عن توتر درامتيكي يدفع صاحبه للإقدام غير مهتم بعواقب المعركة ما دام أنه سيدُ تلك اللحظة الحربية ، ليحققَ التوازن النفسي بين دعوتين متضادتين : إحداهما مندفعة والأخرى منهزمة .

في زمننا وفي كل زمن هناك مَنْ يؤمِنُ بهذه المقولة سبيلا حقيقيًّا عليها يعيشُ وفي سبيلها يترفَّـعُ ويترقي ، يقدِّمُ نفسَهُ وهناك مَـنْ يستحق التقديم عليه بَـيْـدَ أن تضخمَ الذات تكبِّرُه ليصلَ إلى قمة النرجسية ، لا يعبأ بوطن أو أمة أو إنسانية ، لا يبالي بغيره فإمَّا هو وإما الخراب ، إما هو وإما الدمار ، وقد عبَّر القرآن عن أولئك المفطورين على تضخيم أنفسهم في حالتي الرضا أوالسخط في الأعطيات المالية ، يقول تعالى مصوِّرًا ما في قلوبهم وما يقولونه بألسنتهم : ( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( التوبة58 .

فاللمزُ يعقبه السخط ، وهما حالتان تعبران عن نفاق متغلغل في نفوس الفاسدين الذين يحسبون أنهم أعلى مرتبةً ، وأنهم قد خُلِقوا ليكونوا خيرا من غيرهم ، لا يرضون إلا بالمناصب الرفيعة والقناطير المقنطرة من الأموال ولو نُهِبَتْ من حقوق غيرهم ، فلا حلال إلا ما تحله لهم أنفسهم ، وإذا ما أُجْبِرُوا على ترك مناصبهم أو مراكزهم فإذا هم يسخطون على الوطن فيخرجون من دفاترهم كُلَّ أخطاء مَنْ عقبهم وتولَّى من بعدهم ، وقد صمتوا من قبلُ وهم في مواقع المسؤولية على أخطاء وخطايا ، كان يمكن أن يقبضوا أيديَهم وأيدي من يعرفونهم عن المال العام فيُصْلحوا ، لكنَّ حرصهم على مراكزهم دفعهم دفعا إلى الصمت ، فلم يكونوا شهودا بل كانوا مشاركين فاعلين في الفساد الذي سيصبحون أعداءه مِـنْ بعدُ حينما يُـبْـعَـدون عن عيونه وسواقيه وروافده .

إذا مِـتّ ظَـمْآناً فَلا نَـزَل الـقَـطْرُ دعوةُ مَنْ لا يؤمن بالحياة والخير لغيره ، فما دام يعيش فلينزلِ القطر والغيث والمطر ؛ لأن مخرجاته ينبغي أن تكون له وحدَه ، وإذا ما مات فليكُـنِ القحطُ والخرابُ والموتُ . إنها دعوة الذين يرونَ أنفسهم فوق الوطن وفوق الناس جميعا . وهي دعوة نرجسية انتهازية واقعية نشاهدُها في واقعنا الاجتماعي ، وقد ابْـتُـليَـتْ بها أوطانٌ وأممٌ كان عاقبةُ أمرها خُسْرًا ودمارًا وفناءً ، هم أؤلئك الذين يحبون أنفسهم وينقلبون معارضةً فيعلو نقدُهم لِمَنْ خَـلَـفَـهم ، ويَـسُلُّونَ أنفسهم سلًّا من أخطائهم حينما كانوا في مواقع المسؤولية وقد عبر عنهم فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة الفرنسيين فولتير بقوله : حُـبُّ الذاتِ هو كُرَة منفوخةٌ بالهواءِ ، تخرج منها العواصفُ إذا ما ثقبناها.

ولو أنهم أخلصوا لأنشدوا مع أبي العلاء المعري ، فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة العرب :

فلا هطَلَتْ عليَّ ولا بأرْضي سحائبُ ليـسَ تنـتـظـمُ البلادا





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :