خلال شهر تعرض الوطن ومؤسساته ومواطنيه لمحنة وامتحان كبيرين، وكان الثمن فادحاً ومأساوياً، عشرات الضحايا الذين قضوا في ظروف جوية استثنائية قصيرة الزمن، مدمرة الأثر. أسئلة كثيرة طرحت، واجابات قليلة قدمت، اعترافات خجولة ومتأخرة عن قصور كبير، وحقائق صادمة أظهرتها الأزمة، لتجرف السيول تصريحات متعددة سبقت الكارثة عن درجة الاستعداد العالي، والجاهزية، وخطط الطوارئ ..!
ولعل من المهم الآن هو استخلاص الدروس والعبر مما جرى، وبناء تصور وطني شامل، وخطة طوارئ وطنية حقيقية، تعيد بناء مؤسساتنا الوطنية المختلفة على أسس مختلفة، من خلال ما يلي:
1- على وزارة الأشغال العامة، ووزارة الشؤون البلدية والقروية مستعينة بالبلديات ومديريات الأشغال في كافة محافظات وألوية وأقضية المملكة، القيام بعملية مسح هندسي وعلمي شاملة لكافة المنحدرات والأودية والمسيلات المائية والجسور والعبارات، والقيام بإجراءات على المستوى العاجل والقريب والمتوسط والبعيد، لكل المواقع التي يمكن أن تشكل تهديداً لحياة الناس وممتلكاتهم. فلا يعقل أن يتم انفاق عشرات الملايين من الدنانير على مشروع ما يسمى الباص السريع والذي لن يحل أكثر من 1% من مشاكل النقل في العاصمة والتي تسببت بها في الأصل سوء الادارة والتخطيط، والتي أدت إلى اهدار مئات الملايين على طرق وجسور وأنفاق لم تستند عمليات انشائها إلى دراسات علمية حقيقية للوصول إلى نتائج أفضل. في حين يتم اهمال محافظات الأطراف تنموياً وخدمياً، والتي أصبحت مجرد هامش مهمش، مما دفع مئات الآلاف إلى الهجرة بحثاً عن فرص العمل والتعليم والخدمات الأفضل، في حين بقيت مناطق الأطراف خارج خطط التنمية الشاملة والحقيقية، حيث ضعفت البنية التحتية المتواضعة أصلاً وتآكلت، وزادت معدلات البطالة والفقر، وما صاحبها من ظواهر مقلقة كالمخدرات، والعنف، وإضعاف روح الانتماء الوطني العام.
2- التوسع في انشاء السدود ورفع الطاقة الاستيعابية للقائم منها؛ فسد الوالة مثلاً يعتبر انجازاً كبيراً، وقد عاد بفوائد كثيرة على مخزون المياه الجوفية، وانعكس ايجاباً على قطاع الزراعة، وكان يمكن من البداية بنائه بسعة تخزينية أكبر خاصة وأن الأودية المغذية له تتحول إلى شبه أنهار في السنوات المطيرة، وهو السد الوحيد إلى جانب سد الموجب الذي تصل نسب التخزين فيهما إلى 100%. وبالرغم من بدء العمل في تعلية سد الوالة، إلا أنه من الضروري التفكير الجدي ببناء سدود أخرى في المنطقة، تحقق مزيداً من الحصاد المائي، وتساهم في التقليل من أخطار الفيضان التي تهدد حياة المواطنين والمنشآت السياحية والاقتصادية في المنطقة وصولاً البحر الميت.
3- ضرورة التنسيق بين البلديات على مستوى كل محافظة ووضع الخطط المشتركة لإيجاد حالة من التكاملية لمواجهة مثل هذه الظروف والكوارث الطبيعية، والمرشحة للارتفاع، استناداً إلى دراسات علمية، لم يلتفت إليها، ولم يؤخذ بتوصياتها.
4- إن دراسة احتياجات البلديات والأشغال العامة من الآليات والمعدات الضرورية، وتلبية هذه الاحتياجات يعتبر من الأولويات التي يجب على الحكومة أن تعمل عليها.
5- إن الواجب الوطني والانساني والأخلاقي يتطلب في مثل هذه الظروف أوسع مشاركة ممكنة من القطاع الخاص، وأن تضع الشركات المختلفة كافة امكانياتها لمواجهة مثل هذه الأزمات، مع ضرورة أن تمتلك كل بلدية، وكل وحدة إدارية على مستوى الأقضية والألوية والمحافظات قاعدة بيانات دقيقة عن الآليات التي يملكها المواطنين، والتي يمكن الإفادة منها عند الضرورة.
6- على الحكومة أن تدرك ما أصاب القطاع العام من ترهل وضعف، وعدم قدرة على مواجهة الظروف الطارئة، بسبب الفساد الاداري وتفشي الواسطة والمحسوبية التي دفعت بالمئات من القيادات على مختلف المسؤوليات والمواقع، على حساب الكفاءة، وبغياب فاضح لمعايير النزاهة وتكافؤ الفرص، وما رافق ذلك من غياب للرقابة والتقييم والمسائلة، حيث يسود الارتباك وعدم القدرة على التخطيط السليم واتخاذ القرار الرشيد، وقد أظهرت الأزمات والتحديات التي مر بها الوطن في السنوات الماضية بؤس الأداء، وعدم القدرة على ادارة الأزمات بشكل مؤسسي، ومحاولة التملص من المسؤوليات، وتحميلها للحلقات الأضعف من الجهاز الإداري للدولة.
7- آن للحكومة أن تدرك أهمية وجود خلايا تفكير ومراكز متخصصة للبحث العلمي، في كل وزارة وخاصة الوزارات الخدمية الأساسية؛ كالتعليم والصحة والنقل والأشغال والزراعة، وأن ترفدها بالكفاءات البشرية والدعم المادي، فالأداء البيروقراطي الرتيب ووجود مسؤولين يعملون ويفكرون بعقلية موظفين، بعيدين عن الواقع والميدان، سيفضي بالتأكيد إلى وجود مؤسسات عاجزة وغير مؤهلة على التعامل بكفاءة مع الظروف الاستثنائية وحتى العادية.
إن البحث العلمي هو طريق الشعوب والأمم الناهضة لتحليل وتشخيص مشكلاتها والعمل على حلها، والقدرة على التنبؤ بالأزمات، ورسم السيناريوهات، والتعامل مع كافة الاحتمالات بعقل علمي مرن، ليستند إليها صانع القرار، ومدير الأزمة في اللحظة المناسبة. وهذا يقتضي الافادة من العقول والكفاءات في كافة المجالات وفي مختلف المواقع، والاستعانة بالخبراء وأساتذة الجامعات للإفادة من خبراتهم وأفكارهم، ووضعها موضع التنفيذ.
8- لقد أثبتت الفواجع التي مررنا بها بؤس وشكلية مجالس المحافظات، والتي لم تستطع حتى الآن أن تقدم أداء مقنعاً، وقد ابتليت بتشريعات معيقة لعملها، وبثقافة انتخابية تقليدية، مما يعني هدر سنوات وملايين على هياكل بدون مضامين تنموية حقيقية، مما يعني ضرورة الإسراع بتعديل القوانين والتشريعات المؤطرة لعمل هذه المجالس، وازالة التشوهات الموجودة.
9- وبالرغم من كل المآخذ والثغرات وحالة الترهل العام، إلا أنّ ما بذل من جهود على كافة المستويات المدنية والأمنية والعسكرية يبعث على الاطمئنان بكفاءة الانسان الأردني والذي إن وجد نظاماً مؤسسيا للعمل، قائم على حسن التخطيط والمتابعة والتنفيذ والتقييم والمسائلة فإنه قادر على مواجهة التحديات بكل كفاءة واقتدار وتضحية.