ترتفع أصوات كثيرة في عصرنا تدعو الى أن يكون النقد موضوعياً لا يتأثر فيه الناقد بشخصيته ولا بذوقه ،ولا بهذه الأحكام التي ينثرها بعض النقاد معبراً عن رضاه وعن سخطه .فعمل الناقد ينبغي أن يكون عملاً علمياً خالصاً.
وحيث أن النقد يقوم على الوصف من جهة ،والتعليل من جهة ثانية .ولكنه تعليل ينبغي ألا يرد الى الأحوال النفسية للناقد ،وإنما يرد الى نفس الأصل الذي يرجع اليه العلماء في تعليلهم،فهم لا يعللون كل ظاهرة في الطبيعة بعلة جديدة ،بل هم يأتون بعلة عامة تدخل تحتها ظواهر مختلفة ،وقد يعللون لظاهرة واحدة تعليلاً اذا نظرنا فيه وجدناه يصدق على جزئيات كثيرة.والحوار عندهم انما هو الوصول الى نواميس الكون وعلله العامة ،التي لا تفلت منها جزئية من جزئياته .وكذلك ينبغي أن يكون الناقد عالماً في تعليله لما ينقده من آثار ،لا يدع سبيلاًالى نفسه في نقده ،والا كان واصفاً لنفسه ، ولم يصف الأثر الأدبي في ذاته.والناقد الأدبي لا يستطيع مهما اجتهد في أن يكون موضوعياًفي نقده ،أن يخرج عن أطار نفسه وشخصيته وذوقه لسبب بسيط هو أن النقد لا يمكن أن يصبح ضرباً من ضروب العلم ، ولو أنه أصبح كذلك لأستحال الى الى طائفة من البراهين العقلية الجافة ،فكان خاصاً بعلمائه وأصحابه ،لا يجد فيه الناس متاعاً إنما يجدون فيه القياسات العقلية المحضة التي تصرفهم عن قرائته والنقد في حقيقته هو قاعدة من قواعد الادب .
ومهما حاول الناقد أن يتخلص من ذوقه وميله في نقده ،فإن أثارها لا بد أن تتضح في هذا النقد ،لأنه آديب ولأنه يخضع لما يخضع له الآدباء من أذواقهم وميولهم ،ومع ذلك لا بد أن يحترس الناقد من ذوقه وميوله ،حتى لا يشتد في احكامه ،فأنه ليس بصدد الحديث عن نفسه ،وإنما هو بصدد الحديث عن آثر أدبي معين ،من حق صاحبه عليه أن يوضح ذوقه هو وميوله هو قبل أن يوضح ذوق الناقد وميوله.
ويجب أن يكون الناقد مرهف الحس دقيق الذوق نافذ البصيرة وأن يترفق في نقده ،حتى يستطيع الحكم حكماً سليماً على الأثر الأدبي الذي ينقده .
وقد أخذت صحافتنا اليومية ومجلاتنا تزخر بأستعراضات نقدية للكتب الجديدة ،بقصد تنوير القرأء وتبصيرهم بالآثار الأدبية الجيدة ،وهو عمل مشكور وجدير بالثناء .وطبيعي أن يساق هذا النقد في صورة خفيفة ،يلخص فيها الآثر الأدبي تلخيصاً موجزاً مع بيان أهم صفاته .أما الدراسة النقدية العميقة فموضعها الكتب ،لأنها من جهة طويلة ،ومن جهة تحتاج الى شيء من العمق الذي لا يألفه القارىء العادي .
ومهمة الناقد من غير شك مهمة جليلة ،لأنه هو الذي يحوط نقده بكل ما يستطيع من نزاهة وإنصاف فلا يتحول مادحاً ينثر الأزهار ،ولا هاجياً يقذف الأحجار . ولا نبالغ اذا قلنا ان النقد المنصف هو النقد الباقي الذي تزدهر به الآداب وكأنها تولد معه من جديد مرة تلو مرة .