يعتبر الأردن من أكثر دول العالم استثمارا بالإنسان العارف والمتعلّم والمتدرّب والمؤهّل والكفؤ والمبدع والمتميّز والموهوب والمهاري وغيرها من المفردات التي تصبّ في خانة التعليم العام والتعليم العالي والتعليم النوعي والتعليم المبني على الاقتصاد المعرفي وجودة التعليم وغيرها، على سبيل تنمية الموارد البشرية وتحقيق مخرجات نوعيّة بمخزوناتها المعرفية والثقافية والمهارية وغيرها.
ولعل هذا كلّه يشكّل أحد أذرع الرؤية الملكية السامية لجعل الأردن مركزا إقليميا أو عالميا للتعليم النوعي ليضخّ حاجات السوق المحلي ويساهم في حاجات السوقين الإقليمي والعالمي من القوى البشرية المؤهلة في المجالات كافة.
ويتزامن عادة موسم تفويج مواكب الخريجين في مختلف الجامعات الأردنية وموسم الصيف حيث حرارة استقبال الأخوة والأخوات المغتربين ومواسم الحصاد والقطاف وجني الثمار ومواسم الأعراس والثانوية العامة وغيرها، وكلّها مواسم أفراح وخير، ولكنها تشترك أيضا بالإيذان ببدء مرحلة جديدة في حياة الناس المحتفى بهم، مرحلة الجدّ والعمل والاضطلاع بالمسؤوليات الجديدة والتي غالبا ما تمر بمراحل عدّة كالسبات والمدارات وعنق الزجاجة والفرج وغيرها، لكنّها تمثّل حالة جديدة يجب التخطيط والاستعداد المسبق لها. كما أن هذه المناسبات تشترك في خلق جو اجتماعي يمتلك ثقافة الفرح –والتي أحوج ما نكون إليها في أيامنا هذه-، وان كانت تساهم في بعض المظاهر السلبية كإرباك حالة المرور وخلق بعض الفوضى العارمة والضجيج أحيانا أخرى، لكنّها أيضا تساهم في تحريك السوق التجاري ومظاهر النمو الاستثماري وغيرها. لكنني هنا سأقتصر الحديث عن مواكب خريجي الجامعات!
مواكب الخريجين تذكّرنا جميعا –مواطنين ومسؤولين وخريجين- بالعديد من المحاور المفصليّة والتحديات في مسيرة التعليم العالي في بلدنا الحبيب، وتضعنا أمام مسؤولياتنا بصدد ماذا عملنا تجاهها من مشاريع ومبادرات طموحة وواقعية! أولاها بالتأكيد تذكّر المسؤولين بمسألة المواءمة بين مخرجات التعليم العالي والحاجات الحقيقية لسوق العمل، وطبيعة التخصصات المتوفّرة في الجامعات الأردنية سواء كانت مطلوبة أو مشبعة أو راكدة، وطبيعة تكرار الكثير من التخصصات في الجامعات الرسمية والخاصة وغير المطلوبة في سوق العمل، وشبح البطالة الذي يصارع أبناءنا الخريجين – وخصوصا إذا ما تذكّرنا أن ديوان الخدمة المدنية لا يوظّف أكثر من نسبة 6% من طالبي الوظائف سنويا وتتركز في وزارتي التربية والتعليم والصحة-! وتذكّر المسؤولين بمسألة دعم الأستاذ الجامعي واتّقاء شبح هجرة الأدمغة والعقول والتي باتت تشكّل ظاهرة واضحة، وتذكّرهم أيضا بمسائل التعليم الإلكتروني والى أين وصلنا به مقارنة مع العالم الآخر؟، ومسألة البحث العلمي وماذا قدّم على أرض الواقع للتنمية والاقتصاد الوطني؟ ومسألة السياحة التعليمية وآليات جديدة لجذب الطلبة الوافدين! ومسألة زعزعة الثقة بجودة التعليم برمّته، ومسألة البيئة الجامعية الجاذبة.
وتذكّر بمسألة التباين الجلي في جودة التعليم بين الجامعات الرسمية والخاصة، ومسألة قانوني الجامعات والتعليم العالي المطروحة على مجلس النوّاب حاليا والتغييرات الجدّيّة المطلوبة في مسألة الحاكمية الرشيدة وغيرها!
ومواكب الخريجين تذكّر المواطنين بمسألة التغيير المنشود في الثقافة المجتمعية النمطية وثقافة العيب لمسألتي طبيعة الشهادة والتخصص وطبيعة العمل على التوالي، وتذكّر المواطنين بتفهّم الدور الوطني للجامعات لإنشاء الفرد والإنسان القوي المتسلّح بالمعرفة وأدوات العصر. وتذكّر معشر الخريجين بالوقت المنصرم أبّان الدراسة وطبيعة استغلاله وأن الوقت كالسيف وإدارته ضرورة، وتذكّرهم بتمييز الغث من السمين. وتذكّر الخريجين بضرورة المواءمة بين الرغبة والقدرة والمتاح في مسألة اختيار تخصصاتهم. وتذكّر الخريجين بأحلى أيام العمر والتي تشكّل آخر فترات اللامسؤولية واللاوعي، وانطلاق مرحلة جديدة أساسها المسؤولية والوعي والحكمة والعمل الجاد والمنتج والإبداع والتميز والريادة، وتذكّر الخريجين بالمستقبل ومساهمتهم في بناء الوطن وتمتين الهوية الوطنية، وتذكّر الخريجين بالكثير الكثير!
الخلاصة أن مواكب الخريجين تعطي الجميع فرصة لإعادة تقييم مسيرة التعليم العالي وفق مرجعيات ومؤشرات عصرية نوعية ووفق رؤية تشاركية يساهم فيها صاحب القرار ومتلقّو الخدمة ومقدّموها والمجتمع برمته!
* جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
e-mail: mobaidat@just.edu.jo