سواد حل بكثافة في الأيام الأخيرة كما تحل ليالي تشارين الباردة، فأيقظ في نفسي ذلك الإحساس أن الحياة نزوة مؤقتة، وأن الأمل في قادم أجمل ليس سوى حماقة. يبدو أن ثمة نوع من اليأس الاختياري -لم يصبني وحدي- فقط بل أصاب الناس جميعا حتى أنهم أصبحوا يرتابون بكل شيء. خواطر عدة تدهم عقلي فتثير الرعب في قلبي.. قلبي الذي أطفأته حماقات وقوانين الكبار البلهاء وتفاهات الصغار المخزية وفساد المتواطئين مع الكراسي على خيرات البلاد، وعبدة النصوص الذين يواصلون هذيانهم بما لا يستقيم مع العقل.
تعاتبني صديقتي قائلة: خوفك على ولديك، وشدتك عليهما، سوف تؤثران على حياة كل منهما سلبا في المستقبل، فأجيب ببساطة: (وليكن، كلهم هالولدين!) وتنتقدني أخرى قائلة: دلالك المفرط لولديك قد يجعلهما عاجزان عن مواجهة تقلبات الحياة، فأجيب ببساطة أيضا: (وليكن، كلهم هالولدين!) وتؤنبني ثالثة كوني عاجزة عن اتخاذ قرار العودة إلى عمّان، قائلة: قطار العمر يمضي سريعا، سوف تندمين، فأنفجر في بكاء يتناهى إلى مسامع كل من حولنا في المكان، وأجيبها بصوت مجروح: (وليكن، كلهم هالولدين!) فتتجدد التساؤلات حول السرّ الكامن وراء العلاقة بيني وبين عمّان. من أين لي أن أعرف؟ كل ما أعرفه بأن ما يربطني فيها أكثر جمالا من سرّ!
أبحث في اليوتيوب عن أغنية وديع الصافي (ويلي لو يدرون)، فتظهر فجأة أمامي على الشاشة أغنية ارتكبت إثم تصديقها يوما...أعادتني إلى الوراء أعواما كثيرة..(بلاد العرب أوطاني).... من ذا يصدق هذا الهراء؟ الأوطان كلها لي؟ أو هذا ما تقوله كلمات الأغنية.. أما أنا، فلا أريدها كلها، ولا بعضها. أريد وطنا واحدا فقط. وطن لا شكل له. شاسع مثل نهار في نيسان، وحنون مع ذلك، وصوته خفيض وأثير يهدهد قلبي. أريده ذراعا دافئا حول روحي، وحضنا وثيرا، أبكي فيه أطيافا لا وجود لها، وأحلاما يصعب تحقيقها، وخطايا لا يمكن الإعتراف فيها، وشكوكا كبيرة! بعد كل هذا؛ أريده سريرا دافئا، أرتمي فيه وأفقد الوعي من كل هذا السواد وأضحك، ولن أضع كفي على فمي لأستر أسناني البارزة للأمام، كما كنت أفعل وأنا طفلة. وسأغني -بصوتي الذي ما أحببت يوما- ببهجة وحب وانعتاق "دي ليلة حب حلوه بألف ليلة وليلة".... سلامٌ هي حتى مطلع الفجر!