منذ سنوات طويلة، والتحذيرات تتوالى من كلفة انهيار الثقة بين الناس، والحكومات، ولا احد يستمع، ولا احد يتنبه الى معنى الكلام، ولا احد يريد أيضا، ان يأبه بما يقال.
الغضب الاجتماعي، الذي يتجلى بالعنف في كل مكان، والتعبيرات الحادة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتأثير الاشاعات، وانتشار الريبة والشك والكراهية والعدائية، لم يأت من فراغ، وبين أيدينا تقرير ديوان المحاسبة، لعام 2017، وهو لوحده كفيل بتأجيج كل هذه الحملات والموجات، فلا تسألوا لحظتها عن سر موجات الغضب والتجريح؛ لان الإجابات واضحة، كما الشمس.
تقرير ديوان المحاسبة، يكشف كوارث في طريقة الانفاق المالي، على الهدايا، وفواتير الهواتف، والمكافآت بملايين الدنانير التي تنفقها جهات عديدة، وغير ذلك من نفقات، يقول للناس، ان هناك فسادا إداريا، من شكل آخر.
الافراط بحد ذاته في الصلاحيات، أي صلاحيات الانفاق المالي، دون أي سقوف، او محاذير، يعد شكلا من اشكال الفساد، حتى لو تمت تغطية هذا الفساد، بتواقيع من المسؤولين والمدراء.
الفساد، ليس مجرد سرقة عبر العطاءات او المشاريع، او العمولات، او اختلاس المخصصات المالية، او الواردات، اذ ان الفساد له اشكال عديدة، من بينها طريقة الانفاق، وشكلها، واولوياتها، وهذا يفتح الباب واسعا، حول صلاحيات الانفاق، ونحن نعرف ان هناك مخصصات مالية، لدى كل الوزارات والمؤسسات، وبالامكان الانفاق منها، وتغطيتها بتواقيع رسمية، تبدو غير مخالفة، شكلا، لكنها مخالفة من حيث المضمون، باعتبارها «استزادة وافراطا» فيما هو متاح من إمكانات.
الذي يعود الى تقارير ديوان المحاسبة، خلال العشرة اعوام الأخيرة، يكتشف بكل بساطة ان مئات الملايين ان لم يكن اكثر، تبددت بسبب الاستزادة، او المخالفات المستترة، او توظيف الصلاحيات بطريقة خاطئة؛ ما أدى الى ما نواجهه اليوم، من تردي الوضع الاقتصادي، والغرق في الديون.
بعيدا عن ديوان المحاسبة، وتقريره، فأن هذه الحالة نواجهها أيضا في الجامعات التي تغرق في ديونها، جراء استقلالها، وانفاقها المال، على بناء المباني بكلف مذهلة، دون أي داع، او شراء السيارات، او حتى التوظيف مراعاة للواسطات والتدخلات؛ ما جعل الجامعات اليوم، أسيرة لسوء الانفاق، وهو امر نراه أيضا في البلديات، والمؤسسات المستقلة، التي تعاني من هذا الوباء أيضا.
هذه فوضى عارمة، تتسبب بتراجعات كبيرة، على مستوى الاستقرار المالي، وعلى مستوى الديون، والنتيجة هي انتهاء الثقة بين المواطنين والدولة، وبالتالي تفشي موجات من الغضب والنقد والتجريح والاشاعات.
علينا ان نقر هنا، ان كل ما نراه اليوم، لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة منطقية، لكل هذه الفوضى العارمة، التي نراها، من الفساد المباشر،أي السرقة، مرورا باشكال الفساد الأخرى، وليس ادل عليها من ملف السجائر في الأردن، وصولا الى الكيفية التي يدير بها المسؤولون صلاحياتهم المالية.
المؤلم هنا، ان الكل متورط في أنماط فساد كبيرة وصغيرة، اذ لا فرق اليوم، بين من يختلس مليونا من الدنانير في مشروع كبير، وبين ذاك الذي يفرط في استعمال هاتفه النقال.
الكل يحفر حفرته في جدران هذه القلعة. (الدستور)