اختار جلالة الملك، أن يداخل عن النشر الإلكتروني بطريقة صحفية رصينة وهي كتابة مقال، وبعنوان يلخص القضية المطروحة "منصات للتواصل أم التناحر الاجتماعي" ؟!
المقال على طريقتنا نحن كتاب الصحف اليومية، بات الآن "دقة قديمة" أمام طوفان الإعلام الإلكتروني وتطبيقات التواصل "فيسبوك" و"تويتر" و"انستغرام" و"واتس اب" .. الخ. وقد يقرأ المقال بضع مئات لكن بث فيديو يحصل على آلاف واحيانا مئات آلاف المشاهدات. وحسب الإحصاءات مؤخرا بلغ عدد الحسابات على "فيسبوك" في الأردن 8 ملايين، أعلى نسبة في العالم العربي. ولا أملك تفسيرا لهذا التفوق الأردني إنما هي ظاهرة يجب أخذها بالاعتبار ونحن نناقش مستقبل الحياة السياسية في الأردن.
الإشكاليات التي طرحها جلالة الملك يحس بها كل مواطن بغض النظر عن رأيه السياسي أو مكانه أو مكانته، فكل فرد يمكن أن يطاله رذاذ الإساءة. حتى فاجعة البحر الميت لم تخل من تعليقات غبية ومسيئة.
وتنشأ مشاكل عن المناكفات قد تتحول إلى شجارات ميدانية وأعمال عنف. وأتعجب احيانا من الانفلات الذي قد يكون له تداعيات خطيرة حين يمس الخصوصيات، ولطالما تساءلت عن الفصام الغريب عندنا بين التحفظ والمجاملة والحرص الذي يطبع حديث الأردنيين في المجالس والمناسبات والتحلل والتطاول في لغة التخاطب من على منصات التواصل، مما يحتاج إلى علماء اجتماع يفسرون لنا الظاهرة.
وأحدق في كثير من التعليقات التي يكتبها أصحابها دون أن ترف لهم عين وهي تتوجه إلى الآخر بطريقة وقحة ومهينة لو انها قيلت شفاهة ومباشرة أمامه لما كان يرد عليها الا بتسديد لكمة مباشرة إلى وجه قائلها. ولو أن كل شخص فكر مرتين أن ما يكتبه هو مستعد أن يقوله وجها لوجه أمام الآخرين لكانت التعليقات قد تهذبت كثيرا.
من زمان ونحن نقول، إن المهنية والكتابة المسؤولة ترفع السقف وتحمي حرية التعبير وأن الإساءة والتجني والابتزاز تخلق الذرائع لتقييد حرية الإعلام وخفض سقف حرية التعبير لكن ما حصل من زمن الصحافة الأسبوعية وحتى زمن الصحافة الإلكترونية كان العكس مما دعم التشدد في التشريعات وسط بيئة نيابية مواتية للتشدد.
يلجأ كثيرون إلى القضاء وأصبح واضحا الثمن الباهظ لكتابة تعليقات مسيئة أو مهينة للأشخاص أو لعمليات القرصنة وانتحال الأسماء والمواقع واستخدمها للإساءة أو الابتزاز. وخلال الأيام الماضية كنت أتوسط بإلحاح عند شخصية عامة سياسية وإعلامية صديقة ليسقط الدعوة القضائية عن شخص شتمه وأهانه على صفحته على "فيسبوك" . وكان قد تم حبس المدعى عليه وهو رب عائلة ولديه وظيفة كان سيخسرها لولا إسقاط الدعوة بعد أن قدم اعتذارا صريحا طالبا العفو والمسامحة. ولعل ذلك كان درسا له ولغيره.
وهذه الأيام يوجد المشروع المعدل لقانون الجرائم الإلكترونية الذي يمضي نحو مزيد من التشدد، ومقال جلالة الملك الذي طرح اشكالية " التواصل" و "التناحر" لا يعني بالضرورة التوجه بالتشريع إلى تشدد يضرّ بحرية التعبير وبالدور الرقابي الفعّال لوسائل الإعلام ويضرّ بحق النقد والمساءلة وتعرية الفساد بل صبّ الجهد لتحقيق التوازن الدقيق الذي يحمي الحرية ويثبت المسؤولية في آن معا.
منظمات المجتمع المدني والفاعليات النقابية والسياسية والإعلامية تخشى بقوة مشروع القانون المعدل مع أن الجميع يرفض استخدام وسائل التواصل للإساءة والايذاء والكذب والتضليل. ولذلك على الحكومة أن تدخل في مناقشة بنّاءة وتفاهمات حول الصياغات في المشروع بما يحقق التوازن المنشود بين الحرية والمسؤولية في القانون. (الغد)