أما وقد كثر الشاكون وقل الشاكرون، فإن الأمر يحتاج إما إلى الاعتدال أو الاعتزال. ولأن خيار الاعتدال والكف عن زيادة رصيد الوطن من الأذى لم يفلح ولم يثمر عن شيء ذي بال، فإن الاعتزال يتجلى بصفته الخيار الأمثل لمستقبل البلاد وطمأنينة العباد.
ويقفز خيار الاعتزال إلى مقدمة العناوين في الحياة السياسية التي تعاني ترهلا غير مسبوق، وفقدان ثقة آخذا في الاتساع، يقابله سأم يتمدد حتى ليكاد أن ينزع الملامح الإيجابية من كل فعل ومن أي ممارسة.
والخطر الداهم الذي لا يتعين إغماض العينين عنه هو أن يتحول هذا السأم إلى نزوع عدمي تتآكل معه القيم، وتتصدع في غضونه جدران الإيمان بالتغيير والمبادرة، ويصيب العطب أفكار التنوير التي تحلم بأردن يليق بأبنائه وبأرواحهم الوثابة نحو التضحية والعطاء.
لابد من عملية جراحية عميقة تطاول مفردات الحياة السياسية الأردنية وفي مقدمتها الحياة البرلمانية العيية التي أفرزت نوابا نسوا أدوارهم التشريعية والرقابية، وراحوا يندغمون، في جلهم، في البحث عن الغنائم والهبات والرشاوى الحكومية، وتغاضوا عن الرسالة التي يتعين أن يحملوا لواءها فينخرطوا في دفع التحولات في بلدنا إلى مزيد من الارتقاء والسمو والتمدن.
النواب في برلمانهم الحالي عبء على الوطن والمواطن، ولا حاجة إلى التذكير بالاستفتاء غير العلمي الذي أطلقته الصحف اليومية الأربع الأسبوع الماضي وشارك فيه على مدى يومين أكثر من 184 ألفا أكد 95% منهم أنهم لا يؤيدون بقاء مجلس النواب الحالي، وبلغ عدد هؤلاء 174551 شخصا، وفي هذا دليل لا يقبل الشك على تردي الشعبية التي يحظى بها المجلس الحالي، وهو ما أكده استطلاعا الرأي اللذان نشرهما مركز القدس ومركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الأردنية.
وتنخرط أعطيات الحكومة للبرلمان في إطار شبهات الفساد التي تهدف إلى شراء الذمم ونيل الرضا والموافقات التي أشار إليها وعلق جرسها أكثر من نائب من بينهم رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة الذي كشف أنها تتحقق بإشارة من أصبع أو إيماءة من رأس أو تحريك من عينين، أو سوى ذلك من وسائل "الإقناع" الحديثة والمبتكرة!!
وفي أروقة الحكومة يجري تناقل حكايا الفساد، كما لو أنها حلقات متابعة في مسلسل مكسيكي طويل. وخطورة هذا التناقل "الطبيعي" لأحاديث الفساد أن تتحول إلى جعل الفساد قاعدة، بينما النزاهة هي الاستثناء. وفي هذا السياق يجري إطلاق النكات والتعليقات التي تساوي النزيهين بالهُبل والسذّج وغير "المدردحين"!
ومن أحاديث الفساد والإفساد ما يجري تناقله عن حفل عشاء أقيم في مدينة جرش على شرف مدعوين إلى مؤتمر دولي، وبلغت تكلفة ذلك العشاء 50 ألف دينار، فيما ناهزت تكلفة المؤتمر الذي استمر 3 أيام، نصف مليون دينار.
ومن يرخي أذنيه لبعض موظفي المؤسسات والهيئات الحكومية سيسمع العجب العجاب، وستصدمه روايات لا يمكن أن يصدر دخانها إلا عن نيران متأججة تلفح بألسنتها الوجوه والضمائر.
m.barhouma@alghad.jo
** الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الغد ..