من الاقوال المأثورة التي يتداولها الناس كحقيقة غير قابلة للدحض أنّ " الشحادة عاده"، وأن "الانسان يعتادُ كُلَ شئٍ بما في ذلك جهنم". ولذلك يَنقلُ لنا القران ما يطلبه أهل النار من أهل الجنة " أن أفيضوا علينا من الماء". وفي هذا إشارة الى أن مُشكلتهم المُلحة أصبحت الظمأ وليست الحرارة. وبالقياس على ما سبق يمكننا القول بأن " العبودية عادة" أيضا.
ينقل لنا التاريخ أنّ بَني آدمَ إبتدأوا حياتهم على الارض بأكل الثمارِ وما تنبت الارض. ثم تعلموا الصيد وصنعوا له ادواته. وبعد فترة، إهتدى الانسانُ الى الزراعة بعد ان اكتشف العلاقة السببية بين البذور ودورة نمو النباتات. وحتى يتمكن من ذلك، وَجدَ أنه بحاجة الى الاستعانة بالحيوانات، فتمت عمليةُ التدجين.
هذا يعني أن الحيوانات الاليفة لم تكن أليفةً مِنْ قَبل. لم يكن الكلب اليفا ولا القط. بل لا زالا، لا يألفان إلا صاحبهما. فوظيفة الكلب أن يهجم على الغرباء، ويهرب القط من غير صاحبه.. وفي البداية عندما نظر الانسان الى الحصان والثور والجمل لا بد أنه خاف منها بسبب الفارق في حجم الجسد. لكن في النهاية إنتصر الفارق في العقل على الفارق في الجسد.
لا زال أحفاد الحيوانات الاليفة أليفة، ولا يحتاج الانسان الى جهد كبير للسيطرة عليها وتوظيفها لمصالحه. وهذا يعود لسببين. الاول أن الحيوان الوليد يرى أمهُ تُطعم من الانسان مالكها، فلا تصيد ولا تفترس ولا تضطر لقطع المسافات بحثا عن الغذاء. النتيجة أنْ فَتَرتْ جِيناتُ الغزو والعدوان الفطرية، ونمت بدلا عنها جينات الطاعة والتحمل. مقابل توفر الطعام الجاهز تقبل الثور والحمار والبغل أن يوضع على رقابها النير لحراثة الارض، وتقبل الحصان والحمار أن يُركبا. حتى الفيل بضخامته والجمل تقبلا أوامر الانسان وعقابه. السبب الثاني والاهم هو أن الانسان السيد في الاجيال اللاحقة ولحد الان فتح عينيه على حقيقة أن هذه الحيوانات مُنضبطةٌ وقابلةٌ للتحكم فيها والسيطرة عليها وتوظيفها في مصالحه، وهو غير مستعد لتقبل خلاف ذلك.
في المقابلِ لمْ ينتظمُ كافة بني البشر في منظومة السادة والمتحكمين والمسيطرين بسبب التفاوت في القدرات العقلية والجسدية. ويمكننا القول أن العبودية لها مصدران: عُبودية اللونِ وعُبوديةِ القوة. فقد إنتمى مُعظم العبيد تاريخيا الى ذوي البشرة السوداء. وربما يكون مرجع ذلك المناخ الحار الذي يولد الكسل العقلي والجسدي وينمي النهم الجنسي، وهذه من بين مسببات ضعفهم، إضافة الى أنه يبدو أن لديهم قابلية لاستعباد. أما المصدر الثاني فهو الغلبة. فالجيوشُ المُنتصرةُ تغنمُ المُنْهزِمينَ وأموالهم. فالنساءُ يُصبحن سبايا وجواري للمتعة والخدمة. أما الرجال فعبيد. "إن الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذاك يفعلون".
على طول التاريخ لم يَتَحررِ العبيدُ بإرادتهم الذاتبةِ، بَلْ حُرِروا. فعملية التحرير رغم أنها نَقيضُ عَملية ِالاستعبادِ تـَتِمُ مِن نفسِ المصدر وهو القوي، السيد. العبيدُ لا يثورون. إنهم يتعودون على العبودية وتٌصبحُ العُبوديةُ أمرا حياتيا مُعتادا بِكلِ ما فيها منْ عَنتٍ وإذلال وإستغلال مُتعدد ِ الأوجه. بل إن بعض العبيدِ يرفُضون الإنعتاقَ، لأن العبد يجدُ نفسهُ عاجزا عن تدبيرِ عَيشهِ خَارجَ الحظيره. لقد تعود أن يصيد لسيده ويغزو لسيده ويَطبُخَ ويحرث لسيده وأن يأكل الفُتاتَ الزائدةَ المُمرغة، وَلكنهُ لم يتعود أن يصيد لنفسه أو أن يغزو لنفسه. فالعبدُ لا يمتلك إرادةَ القِتالِ ولا نَفسيةَ المُقاتل، وإن كانَ جَسَدهُ أقوى من جسد المُقاتل. وهذا مُطابقٌ لما روي عن عنترة بن شداد اذ قال: العبدُ لا يَكُرْ. لقد إستجدى عنترةُ القويُ الشجاع، الحُريةَ مع أنهُ كانت لديه القدرةُ البدنية على الفوز بها. إستجداها بشعره واستجداها بدمه. كانت الحرية تدغدغ احلامه ولكنها لم تستفزه، لأن ارداة الحرية معدومة لديه، وربما كان استجدائه للحرية، ليس للحرية نفسها ولكن لانه ادرك أنها الجسر الوحيد للقبول به زوجا لحرة. لذلك لم يظفر عنترة بالحرية لانه لم ينتزعها. لقد رضي عنترة بأن يكون مقاتلا مرتزقا، لانه لم يكن فارسا حقيقيا.
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
دَعني أَجِدُّ إِلى العَلياءِ في الطَلبِ وَأَبلُغُ الغايَةَ القُصوى مِنَ الرُتَبِ
لَعَلَّ عَبلَةَ تُضحي وَهيَ راضِيَةٌ عَلى سَوادي وَتَمحو صورَةَ الغَضَبِ
إِلى كَم أُداري مَن تُريدُ مَذَلَّتي وَأَبذُلُ جُهدي في رِضاها وَتَغضَبُ
حَسَناتي عِندَ الزَمانِ ذُنوبُ وَفَعالي مَذَمَّةٌ وَعُيوبُ
خَدَمتُ أُناساً وَاِتَّخَذتُ أَقارِباً لعَوني وَلَكِن أَصبَحوا كَالعَقارِبِ
يُنادونَني في السِلمِ يا ابنَ زَبيبَةٍ وَعِندَ اصطِدامِ الخَيلِ يا ابنَ الأَطايِبِ
أخطرأنواع العبودية عبودية الفكر. في بداية الكون لم تكن الخراف تتبع الحمار بتسليم كامل . ولم تكن تطيع كلب الراعي. ولكنها اصبحت كذلك كما نراها هذه الايام. لقد تخلى معظم الافارقة عن ثقافاتهم، فاعتنقوا دين المستعمر المستبد ولغته ولباسه وبعض عاداته، ومع ذلك ظلوا في نظر أنفسهم اقل منه، وكذلك هم في نظر المستعمر المستبد. لانهم لم ينتزعوا حرية الوطن و لا حريتهم الشخصية باستثناء مانديلا الذي قدم مثالا للنقيض.