يتحاشى الأردن الرسمي التعليق لمصلحة احد الخصمين المتناحرين على السلطة في إيران عقب انتخابات مشبوهة أججت احتجاجات شعبية غير مسبوقة منذ الثورة الإسلامية عام ,1979 التي رسخت ولاية الفقيه بعد أن أطاحت بنظام شاه كان يدور في فلك الولايات المتحدة.
فبعكس دمشق, حليفة طهران; وبيروت, حيث يلعب حزب الله اللبناني الموالي لإيران دورا رئيسيا في الحياة السياسية هناك, لم ترسل عمان, كحال غالبية العواصم العربية, برقية تهنئة للرئيس محمود أحمدي نجاد إذ يعلن فوزه وسط تصاعد الاحتجاجات الشعبية على اقتراع شابه تزوير.
حياد عمان السلبي تجاه طهران ينبع من أسباب مبدئية وسياسية وإستراتيجية.
ويبدو أن صناع القرار يفضلون ترقب ما سيؤول إليه مستقبل بلد بات في قبضة ثورة غير منتهية عكست متغيرات عميقة في صورة وطبيعة النظام بين قطبي المحافظين بقيادة أحمدي نجاد الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية وأخيرة, والإصلاحيين وأبرزهم مير حسين موسوي.
وتثور تساؤلات مشروعة حول أوجه اختلاف الجانبين لجهة رسم السياسات الخارجية, فهما يتفقان على حق إيران في امتلاك القنبلة النووية والسعي لدخول نادي الكبار, لكنهما يختلفان حول حكم الملالي وفكرة تفرد الحكم الديني- العسكري بالسلطة والبلاد, ووجهة البلاد الاقتصادية والاجتماعية في زمن العولمة.
الأردن إذن يلتزم الصمت حيال إيران لئلا يتهم بأنه يتدخل في شؤون دولة, طالما اتهمها بالوقوف وراء محاولات زعزعة أمنه واستقراره, على خلفية تناقض الأجندات السياسية; مملكة متحالفة مع أمريكا وترتبط مع إسرائيل بمعاهدة سلام, وجمهورية إسلامية على خط مواجهة مع الغرب وغالبية الدول العربية بسبب نزعتها نحو الهيمنة الإقليمية لدخول نادي الكبار.
استراتيجيا, تنتظر المملكة, شأن غالبية الدول العربية قواعد الانخراط الجديدة بين إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي دانت نظام إيران بسبب قمعه المحتجين على تزوير الانتخابات, بعدما كانت تفكر في الانخراط مع طهران لتبريد الملفات الساخنة التي تتحكم بخيوطها, بدءا من العراق, لبنان وفلسطين; وانتهاء بأفغانستان وباكستان.
اليوم, ستضطر إدارة أوباما العودة إلى طاولة رسم السياسات لإعادة صياغة ما في ذهنها عندما فكرت بالاعتراف بديمومة النظام الإيراني وحقه في امتلاك طاقة نووية بضمانات عدم التدخل في شأنه الداخلي.
في هذا الإطار الأوسع تتداخل سياسات ما يسمى ب¯ دول الاعتدال العربي مع مواقف واشنطن حيال حلفاء إيران العرب في خندق الممانعة; سورية, حركة حماس الفلسطينية وحزب الله. تعطف على ذلك بوادر مواجهة حتمية بين واشنطن ورئيس الوزراء الإسرائيلي المتشدد بنيامين نتنياهو حول فرص إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال قيام دولة فلسطينية مستقلة.
من هنا تأتي رغبة إدارة أوباما في التحرك سريعا صوب فك عزلة سورية السياسية, وتعيين سفير لها في دمشق بغد غياب أربع سنوات, وذلك بعد أن أوفت بوعدها بعدم التدخل في الانتخابات اللبنانية التي جرت قبل ثلاثة أسابيع.
وقد تتجه دمشق, مستغلة زعزعة السلطة في إيران في معركة طويلة وغير مضمونه, إلى إقناع إدارة أوباما بأنها حلقة وصل مهمة بين قضايا الإقليم المتشابكة.
عمّان تقرأ وتتحسب, شأن غيرها من عواصم العالم, مختلف السيناريوهات التي سيضعها المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي قسم المجتمع الإيراني بانحيازه السافر لنجاد, المفترض أن ينّصب رسميا رغم أنف الإيرانيين في آب (أغسطس).
من المتوقع أن يعلن مجلس صيانة الدستور غدا الاثنين نتيجة دراسته لطعون المرشحين المعترضين, بينما تتناسل الضغوط الخارجية لإعادة إجراء الانتخابات. في الأثناء, خرج رجل الدين المعارض آية الله العظمى حسين منتظري عن صمته, ليحذر من سقوط النظام الإيراني إذا تواصل قمع التظاهرات السلمية هناك.
الاحتمالات التي يدرسها الأردن وغالبية العرب تتراوح بين أن يفتعل نظام مضطرب فاقد للإجماع الوطني بقيادة خامنئي-نجاد أزمة مع في العراق, لبنان, فلسطين أو مع إسرائيل لتحويل الأنظار عن النزاع الداخلي ولتبرير المزيد من القيود لقمع المواجهات, أو أن يواصل قمع المعارضين ومحاصرتهم, ما سيستهلك قوى السلطة ويفشل تنفيذ استراتيجية التصعيد على المحاور الخارجية.
عمان تريد الاصطفاف في الوجهة الصحيحة بعد أن تتضح تداعيات الحراك الشعبي على قوة وتماسك النظام العقائدي البوليسي الذي يخترق المنطقة منذ سقوط نظام صدام حسين البعثي عام .2003 وهذا قد يستغرق شهورا بينما يبحث الإيرانيون عن نتيجة عادلة للتصويت.
لكن في الغرف المغلقة, ما فتئ المسؤولون هنا يفضلون عدم التعامل مع ولاية ثانية لنجاد, بطل تأزيم العلاقات مع الخارج وصاحب خطاب شعبوي متشدد وتحريضي ضد دول الاعتدال العربي. نجاد رقم صعب لأنه يرى الثوابت أولوية وليست الواقعية السياسية مهما كانت التبعات والإساءات إلى سمعة إيران العالمية بما فيها مواقفه الرافضة لحق إسرائيل في الوجود.
في المقابل, يظهر موسوي أكثر مرونة. فهو يستعمل لغة دبلوماسية وخطابا منمقا يحتضن الواقعية السياسية لكن من دون أن يؤثر ذلك على الثوابت الاستراتيجية. وقد ينجح في التشبيك بطريقة دبلوماسية أكثر دهاء.
أجندة موسوي الداخلية تبقى أقرب إلى سياسة الأردن. فهو يطالب بإصلاحات تفضي إلى تعددية سياسية واجتماعية وثقافية تعطي دورا للقطاع الخاص كمحرك أساسي لإدامة النمو الاقتصادي وانتشال البلاد من سياسات نجاد عديمة الخبرة, التي أفقرت إيران وضاعفت من مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية.
أما نجاد, فيرى في خصمه ومن يقفون خلفه مثل رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام ورئيس مجلس الخبراء هاشمي رفسنجاني والرئيس السابق محمد خاتمي, ورئيس البرلمان الأسبق ناطق نوري جزءا من خطة مدعومة من قوى خارجية تسعى لتغيير أسس إدارة الدولة لتحقيق نفوذ ومكاسب شخصية.
يتفق ساسة ودبلوماسيون مع مسؤولين في الأردن على استبعاد وقوع انقلاب في استراتيجية إيران الخارجية, في حالة فاز موسوي في إعادة التصويت المنشود.
لكنهم بالتأكيد يتوقعون أن تختلف إيران المستقبل عن إيران الأمس. سواء تحت راية نجاد أو موسوي, لا بد من مراجعات تصحيحية وإن لم تكن بذات الوتيرة التي يأملها الغرب. فإيران لن تنهار لأنها تملك مقومات الدولة الإقليمية القوية, المدعومة بشرعية دينية ومشاعر قومية نقية. يقول سياسي أردني مطل على المشهد الإيراني: بالتأكيد بدأت الثورة الإسلامية, وبعد 30 عاما, تعاني من شيخوخة مبكرة وسريعة لأنها لم تجر أي تحديث لطريقة إدارة الدولة, وركزت على النجاة (survival) من خلال انشغالها بحرب مع العراق, لثماني سنوات, لتخرج منها وتبدأ بتأزيم علاقاتها مع الغرب وغالبية جيرانها العرب. على أنه يردف أن: أي تحديث قادم لن يكون على غرار بريسترويكا ميخائيل غورباتشيف (التي فككت الاتحاد السوفياتي قبل عقدين) وإنما تحولات تدريجية.
ويرى السياسي الأردني أن موسوي, في حالة صعد إلى الحكم مجددا (كان رئيس وزراء بين عامي 1980-1988), لن يلغي برنامج إيران النووي كي يباع قطعا, ولن يقلص نفوذ بلاده من العراق, ولبنان وفلسطين من دون مقابل معقول.
في المقابل سيتجه الى تطبيق برنامج سياسي داخلي يعتمد على التعددية واستمرار الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي.
عودة إلى الأردن الرسمي. لن يستطيع هذا البلد السير نحو الانفتاح على إيران إلا ضمن محددات الاستراتيجية العليا للدولة وخطوطها الحمر القائمة على ثالوث أمريكا, إسرائيل والاعتدال العربي, وفي انتظار تجلي عمق التغيير داخل إيران. في الأثناء تبحث عمان حاليا عن سفير جديد لتعبئة شاغر طهران.
الاسلاميون في الانتظار
حتى التيار الإسلامي الذي يقود المعارضة السياسية في البلاد, يجد نفسه مصطفا بجانب الموقف الرسمي الذي لا يريد التعليق على ما يجري في إيران.
لكن الإسلاميين أيضا يأملون في أن تؤدي التداعيات الأخيرة إلى إعادة مراجعة استراتيجيات وسلوك إيران, لصالح دور إقليمي يعزز الأمن والاستقرار ويخدم قضايا الأمة.
الإخوان المسلمون المتحالفون مع حماس الفلسطينية, لم يعلقوا كذلك على المواجهات الدامية العام الماضي بين حزب الله اللبناني المناوئ لإسرائيل وحكومة فؤاد السنيورة.
في مقابلة مع كاتبة المقال, يقول نائب المراقب العام للجماعة جميل أبو بكر نحن نفضل عدم التدخل. نحن ضد السياسات المذهبية ومع التعددية السياسية.
وتفضل الجماعة السنّية عدم الوصول إلى عنف وصدام, لكنها تؤكد أهمية الشورى وتطوير النظام السياسي الإيراني عبر توسيع قاعدة المشاركة في صنع القرار. ويضيف أبو بكر نحن مع التزام إيران بقضايا الأمّة ومد جسور الحوار والتفاهم, وضرورة أن تتوجه إيران لعلاقات أفضل مع محيطها العربي والإسلامي.
لكن الرأي غير المعلن يميل لكفّة نجاد باعتباره يضع القدس والقضية الفلسطينية, من المنظور الإسلامي, ضمن أولويات سياساته الخارجية.
في الخلفية تراجع شعبية إيران المناهضة لأمريكا عربيا, لتدخلها في الشؤون الداخلية للعراق ولبنان.
إعلام منقسم
الإعلام المحلي مقسوم بين مؤيد لتيار إصلاح يتمنى أن تنبّه أحداث إيران الأنظمة العربية ذات الغالبية الشمولية إلى ضرورة تبني خيار الحرية السياسية وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار, ومعارضي الانتفاضة التي يحركّها الغرب وجواسيسه لضرب الصمود الإيراني المقاوم لأمريكا والصهيونية.
بغض النظر عما يحدث في إيران, فللحراك الشعبي دلالات مهمة لا يستطيع أحد القفز عنها: شعب حي قادر على إسماع صوته من خلال النزول إلى الشارع لفرض صناعة جمهورية إسلامية جديدة.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net