المعاني الكبيرة تنحدر قيمتها إلى حضيض حين يكثر الحديث عنها وتلوكها الألسنة . منها - مثلا متعلقا بواقعنا - الوطنية ، ذلك الشعور الفطري الجميل المسالم ، الذي يسكن الضمائر ، هادئا مطمئنا راسخ البنيان ، دافعا إلى الإنجاز والعطاء والتكافل والمحبة ، فإن حاق بالوطن خطر تأجج واشتعل ، وجمع الصفوف ووحد القلوب والأفئدة . خالقا في الحالتين طاقة تعلو على حسابات الربح والخسارة ، ومتعلقات المنطق والسببية ، بل تعلو على عالم الشهادة كله ، فتغدو أرخص بضاعة يقدمها المرء حينها الكلمات ، لأنها تصف ما لا يوصف ، وترمي إلى تجسيد ما يتعالى على الزمان والمكان .
وحتى لا ينزلق المقال نحو ثرثرة لا تضيف شيئا ، ولا تقوم شاهدا على وطنية حقة أو مزعومة ، سنفكر معا و نسأل السؤال الكبير مباشرة : هل شعورنا بالوطنية شعور إيجابي ؟ وكيف نفسر اجتماع الروح المتأججة بالوطنية ، مع التشرذم والفرقة والإنكفاء على الذات ؟ أما السؤال عن الشعور الإيجابي فليس هدفه السلب أو المنح ، فهذان مناطهما النية ، وما نظن بنوايا أحد إلا خيرا ، وما نطرح السؤال إلا على شركاء واخوة ، لهم في الصدق وحب الوطن باع طويل . وأما التشرذم والفرقة فهما الشاهد الحي ، المنتصب أمام أعين الجميع ، إلا من أنكر ذلك استعلاء على الحقيقة ، أو قصورا في الفهم والإدراك .
سأنطلق من مقدمة لا ألزم بها أحدا ، فحواها أننا نعاني هزيمة من العيار الثقيل ؛ هزيمة حضارية وروحية وإنسانية ، تتبدى شواهدها في كل شيء ، في المنجزات التقنية ، والبحث والتدريس ، والفنون والاداب ، والرياضة والاقتصاد ، فنحن بالنتيجة عالة على الزمن ، نأخذ منه ولا نعطيه ، ونقيم على تخوم الحضارة دون أن يكون لنا من الولوج إليها نصيب .
هل تريدون برهانا على هذا ؟ سأترككم إلى شاشات الأجهزة التي تقرأون هذا المقال عبرها ، لتحدثكم عن مبتكريها وصانعيها ، بل إلى ازرار اللوحة التي قد يستخدمها أحدكم للتعليق على هذا المقال . سأترككم إلى سياراتكم وملابسكم وجوالاتكم ، بل إلى بيوتكم وشوارعكم ، وما فيها من هندسة وروح عبقرية ، نظمتها وأقامتها على قواعد وأسس . سأترككم إلى طبكم وحشوات أسنانكم وغرف العمليات الجراحية إلى مطاراتكم وطائراتكم ، إلى النظام الذي يتخلل كل شيء ، فيجعل منه أعجوبة الزمان والميزان الدقيق الذي جمع العالم تحت قانون واحد ، وإجراء لا يختلف مهما تعددت الأمكنة ونأت المسافات .
فإن لم يعجبكم هذا ، سنتحدث عن جائزة نوبل ، ولن نتطرق إلى فروعها في الكيمياء والفيزياء والطب ، لأن حظنا في هذه المجالات صفر مرفوع إلى القوة مليون ( على أن لا يحاول أحد أن يقنعني بأن أحمد زويل ، ذا الجنسية الأمريكية ، الذي أجرى بحوثه في جامعة أمريكية ، وبأموال بحث أمريكية عبر راع من القطاع الخاص الأمريكي قدم له هبة مقدارها 20 مليون دولار للإنفاق على بحثه ، لا يحاول هذا الأحد أن يقنعني بأن الجائزة مصرية أو عربية ، لأنه سيكون أعمى البصر والبصيرة ومتجنيا على نفسه قبل الآخرين ) بل سنتحدث عن جائزة الآداب - وهي منجزنا الوحيد عبر نجيب محفوظ – لنقول أن هذه الجائزة قد سبقتنا إليها دول مثل نيجيريا وغواتيمالا وبولندا ، قبل أن نشم رائحتها ، عبر إنجاز يتيم ، لا ندري هل سيتحقق ثانية ، أم أن الزمان الذي ابتسم مرة قد ندم على ذلك ، ولن يغادر عبوسه واكفهرار وجهه .
بل هنالك ما هو أدهى وأمر ، في الرياضة هذه المرة ، هل تصدقون أن دولة مثل كوبا قد حصلت في دورة أولمبية واحدة على عدد من الميداليات يفوق ما حصلت عليه الدول العربية مجتمعة منذ أول دورة أقيمت حتى يومنا هذا . يا للهول !! ألهذا الحد نحن عاجزون عن تحقيق الإنجاز ؟؟؟
إنه واقع ممتليء بؤسا وكمدا ، لا يكاد المرء يفكر فيه ثانية واحدة ، حتى يفر من عقله إلى شيء آخر .. والطامة الكبرى هي هذا الشيء الذي نفر إليه !!
فأمام واقع كهذا تبدو المسافات فيه شاسعة والمقارنة معدومة ، يخسر العقل المهزوم المتهالك مكانه ، فيفر الانسان إلى الغريزة ؛ أي إلى " مسبقات البرمجة فيه " بحسب قول بعض الفلاسفة ، ليسلك مسلك الغريزة لا العقل في تعبيره عن انتمائه إلى الوجود . والمساحة التي يفرغ فيها هذه الغريزة ، هي الأسوار الأربعة التي أحاطته بها قوة استعمارية ما ، فألزم هو نفسه بهذه الأسوار ، بما يفوق الذي خطط له الاستعمار أضعافا مضاعفة .
نحن ببساطة نهرب من مقارنة أنفسنا بالعالم الحقيقي الفاعل المنتج ، فنلقي عليه ستارا من الصفح ، ونكتفي بما نتلقاه منه من أسباب العيش الناعم المرهف ، لنقيم لأنفسنا عالما صغيرا ، بسيطا وبدائيا ، نحسبه كل شيء ، وما سواه ظلال على جدران كهفنا ، لا نستطيع بل لا نريد تفسيرها لأنها ليست من شأننا .
هكذا تغدو الوطنية هروبا من العالم ، ومتنفسا تفرغ الغريزة فيه كل طاقاتها ، سلبا وايجابا ، وإقصاء لكل ذئب شارد نحسبه يتربص بالكهف وأهله . فنقدس الظلمة ونرخي الزمام للظالمين . بل يؤله المجتمع هذا في بعض الأحيان نفسه – وحاشا لله أن يكون له الى حقيقة هذا المعنى من سبيل – فتكثر فيه الأفكار المتسلطة ويسهل العبث ، فنتوه في صحرائنا كما كنا منذ آلاف السنين ، صحراء الغربة عن الوجود ، ونعتصم بالعصبية المفرطة من جديد ، وهل للصحراء إلا العصبية التي تربح الرهان كسلاح أخير في صراع البقاء ، حتى لا يفنى صاحبها ويغادر العالم إلى غير رجعة .
هل يمكننا هذا الكلام من تفسير كثرة الأوطان وقلة البركة ؟ هل يضع أمام أبصارنا السبب الذي يجعل من الوطن قبيلة كبيرة غير أنها قابلة للتشرذم والانقسام من جديد ؟ هل وضّح الكلام السابق الفرق الدقيق بين الانتماء والعصبية ؟
ربما يكون في ما سبق تفسير جيد ، وربما يكون الذي فيه محض مبالغة واختراع . لكنكم تشاهدون وتتابعون ، ولكم أن تسألوا وطنيتكم عن الفساد المقيم ، عن سلبكم اختيار المقاومة من أكثر المتشدقين بالوطنية حين تفشل جيوشكم في الدفاع عن أوطانها ، عن ديمقراطياتكم الصورية الباهتة التي تنتج أشخاصا يعيشون على امتصاص دمائكم ثم يسبونكم ويشتمونكم ويتعالون عليكم ، عن الدين الذي يحوله بعضهم إلى شعوذة ، وبعضهم الى وسيلة كسب ، وبعضهم الآخر الى مجرد طقوس ومراسيم ، عن صحافتكم وسلطتكم التابعة لا الرابعة ، عن الجدران التي لها آذان ، عن التخاذل أمام إهانة معتقداتكم ، عن الأقزام الذين يُعملقون ، وعن العمالقة الذين يُهمَشّون ... عن كل شيء ، ولأجل كل شيء يحق لي أن اسألكم ... عن أي وطنية تتحدثون !!؟؟
سبحانك لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة الا بك .
Samhm111@hotmail.com