خطوة إلى الأمام إقدام بعض الدول العربية, من بينها الأردن, على فتح الباب أمام القطاع الخاص للاستثمار في إنشاء محطات إذاعة وتلفزة وصحف تقوم بدور مواز لتلك الحكومية التي أفل نجمها بعدما فقدت الكثير من جمهورها بفضل عولمة الفضاء وانحسار دورها ضمن مقيدات الأطر الرسمية.على أن توصيفها بأنها في الاتجاه الصحيح قد يصح في مكان ودولة ولا يصح في مكان آخر لأسباب متعددة منها غموض "أجندة" الشخصيات التي تقف وراء الاستثمارات, وعلاقاتها الحميمة مع السلطة والنخب السياسية والاقتصادية, وأحيانا كثيرة غياب الشفافية والعدالة في إجراءات الترخيص.
لقد صدرت عدة قوانين موجهة لتنظيم الاستثمار في قطاع الإعلام المرئي والمسموع والمقروء بعد أن أدركت بعض الأنظمة السياسية المتنورة أن عصر الهيمنة على وسائل الإعلام ولّى إلى غير رجعة مع أن الإعلام يظل أهم عناصر الدعاية والتكوين السياسي والثقافي للمواطن.
تنفيذ الإجراءات يتم ضمن إطار قانوني من الناحية الشكلية, إلا أن بعضها يشوبه الخلل ويقترب من "التلزيم" الذي أصبح قاعدة وليس الاستثناء.
في أغلب الحالات خرجت السلطة من الباب, لتدخل من الشباك, بالتواطؤ مع القطاع الخاص عبر منح امتيازات علنية أو سرّية لرجال أعمال وساسة من الموالين لها, الأقرباء أو المحاسيب وحتى الأصهار.
لم يعد العامل السياسي المحرك الوحيد وراء إنشاء منابر مساندة للسلطة لضمان آلية حشد رأي عام وتواصل مع الجماهير, بل تعدّاه لاقتسام غنائم بدأ يحصدها هذا القطاع الواعد بفضل ازدهار سوق الإعلان الإذاعية والتلفزيونية والتكنولوجيا الرقمية في تسويق منتجاتها.
الاحتكار الحكومي السابق طال الأفكار والآراء. لكنّه لم يركّز على جني الأرباح باعتبارها القوة الرافعة لهذه الاستثمارات والضمانة الأكبر لبقائها. أما الاحتكار الجديد فأصبح بعضه طريقة سهلة لغسل الأموال في بعض الدول أو وسيلة لجني الملايين من خلال الواجهات الجديدة.
الأحاديث الدائرة وراء الكواليس أخذت تصم الآذان وتؤشر إلى قصص فساد مثيرة تحمل شبهات تورط مراكز نفوذ تذوقت طعم المال السهل القادم عبر هذه الاستثمارات المحمية بطواقم السلطة.
الاصوات الحرة من إعلاميين وساسة ومنظمات المجتمع المدني التي هلّلت لخطوات الانفتاح هذه تراقب الأمر عن كثب.
في اليد قرائن تدل على أن ما تدعيه بعض هذه الدول من تحرير للإعلام لا يتجاوز إطار المنفعة الضيّقة وتبادل المصالح في دائرة التكسب غير المشروع لكن تحت شعار تعزيز حرية الرأي والرأي الآخر وخدمة المجتمع وتفعيل المراقبة.
ففي إحدى الدول العربية, سمح لمستثمر باستغلال تردّّدات إذاعية محصورة قبل ثلاث سنوات دون أن يسدد رسوم الترخيص وغيرها من الضرائب التي تستوفيها الحكومة.
مع أن الترددات لا تزال مربوطة شكليا بالجّهة الرسمية الأصيلة, إلا أن هذه الجهّة لا تمتلك حق الإدارة أو المشاركة في صناعة برامج المحطّة, التي تدار من مكاتب حديثة خارج أسوار المؤسسة الرسمية.
وهكذا أضحى القائمون على هذه المحطة يجنون, بين ليلة وضحاها, الملايين من الأرباح المعفاة من ضريبة على المبيعات ورسوم أخرى مفروضة على إذاعات منافسة تعمل في نفس البلد ومطلوب منها العمل بشفافية وتسديد مستحقاتها السنوية بما فيها رسوم التأسيس المرتفعة أصلا.
المستثمر ذاته أسّس شركة تدير إذاعة أخرى تمتلك حقوق نشر وتوزيع أغان عربية تبثّها إذاعات محلية جديدة. لذلك تطالب هذه الإذاعة نظيراتها برسوم حقوق الملكية الفكرية عن استعمال الأغاني الحصرية.
إذ أرسل هذا المستثمر أخيرا, عبر محاميه, لفت نظر لعدد كبير من الإذاعات المحلية يطالبها بتصويب أوضاعها عبر توقيع اتفاقيات لاستعمال الأغاني مقابل رسوم سنوية تفوق الـ 60 الف دولار. وإلا سيلجأ للقضاء.
بينما يوصف هذا التصرف بأنه قانوني في مواجهة قرصنة الأغاني والمصنفات الفنية, يرى المنافسون في هذا الحقل أن على المستثمر أن يصوب وضعه أولا قبل أن يفرض ما يرونه "أتاوات" من شأنها إجهاض مشاريعهم. ويذهب آخرون إلى مطالبته بتصويب وضعه "الملتبس" في إدارة المشروع الأول وتسديد المستحقات المطلوبة منه من ضرائب, فواتير خدمات ورسوم استعمال ترددات ومحطات تقوية.
في قصة أخرى, نال مستثمر كان مقرّبا من دوائر النفوذ رخصة تشغيل إحدى القنوات المملوكة لتلفزيون حكومي. وحين طعنت جهات إعلامية منافسة بالإجراءات وأوصلت صوتها إلى مجلس الأمّة, تم "لفلفة الطابق".
في بلد عربي مجاور, يهمس مسؤولون كبار في آذان رجال أعمال من "عظام الرقبة" من أجل تأسيس محطة فضائية, ردا على محطة خاصة ذات توجه ديني كانت بدأت البث التجريبي قبل أن توقف بشكل مفاجئ قبل سبعة شهور. وأحيل الملف إلى القضاء.
في نفس هذا البلد تأسست جريدة يومية يملكها رجل أعمال تمدد نفوذه لدرجة أن اقتصاد هذا البلد ينسب إلى اسمه.
وفي أحيان أخرى, كان الهدف من إنشاء وسائل إعلام جديدة خلق الانطباع بأن هناك إعلاما مستقلا يميل إلى المراقبة والمعارضة وسط مطالبات دولية برفع قبضة السلطات عن الإعلام. لهذه الصحف والفضائيات حق انتقاد قضايا اجتماعية واقتصادية هامشية لكنها تصطدم بسقف انتقاد سياسات الدولة أو نبش قضايا فساد. وفي أحيان أخرى يقف وراء هذه الوسائل أجنحة متنافسة في الدولة الواحدة. سقف هذه الصحف الآن يوازي ما يقدمه الإعلام الرسمي, لكن مع جرعة تجميل.
المؤسف أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.
إذ وصل حد الاحتكار والالتفاف إلى سيطرة هؤلاء المستثمرين على سوق أخرى متصلة بهذه الصيغة الجديدة وهي سوق الرسائل القصيرة وخدمات الاتصال, فيما يشبه الإمبراطوريات الإعلامية في الشرق والغرب.
والقادم أعظم.
ففي الغرب, لا سيما في الولايات المتحدة, تطورت الترددات الإذاعية التقليدية إلى تكنولوجيا رقمية. ويبقى السؤال القادم من سيفوز بهذه الذبذبات المستقبلية حين يحين موسم قطافها في العالم العربي؟
قد تكون الدول العربية قد تخلّت عن الإعلام الموجه إلا أن بعضها لم ينجح في بناء جسور التواصل مع المجتمعات بشفافية وعدالة, بل خلقت أدوات موازية أكثر فسادا في أحيان كثيرة. فماذا تريد القيادات والمجتمعات من الإعلام هذه المرة؟ إنشاء صروح جديدة تفيد الاقتصاد والاستثمار وأصحاب رؤوس الأموال المتهافتة على هذه المنطقة وغيرها أم فكفكة القديم وبقاء الأمور على قدمها؟.