إن الناظر من ذلك الأفق الصحراوي المتعبق بغبار تشرين إلى تلك الحشود البشرية الهائلة التي أمّت الحدود الأردنية السورية منذ أن أعلن عن إعادة افتتاحها قبل أيام، ليعي تمام الوعي ما الذي كانت تمثله "سورية" لتلك الحشود..
إن "سورية" يا سادة كانت أمّا تم ابعادها قسرا عن ابنها الذي تحب وترضى لفترة طويلة قاسية، حاول فيها ذلك الطفل أن يتكيف ويتعايش مع واقعه الجديد بعيدا عنها، مستعيضا برعاية مذلة لم يفتأ مقدمها يذكره ويمنّنه بها !
نعم يا سادة: إن حياة الطفل دون أمه، حياة ملؤها الذل والهزيمة، تشبه حياة أسماك البحر في الأحواض الزجاجية، ليست حياة طبيعية بالمطلق..
الموت المعجل مآلها، أو العزلة والعيش على فتات طعام السيد في أحسن الأحوال..
إن ذلك الطفل ما أن خُلي بينه وبين أمه -بأن أشغل الله المُبعدين بأنفسهم، وجعل الدائرة تدور عليهم- حتى أقبل إليها وأقبلت إليه، كلٌّ قد علم خطأه وصوابه..
***
في البدء كانت حوران، وفي المعاد كذلك..
بدأت بها المأساة التي كادت أن تمزق لحمة الدولة الموحدة، وتحطمت على صخورها البازلتية السوداء تلك المؤامرة الأخبث في تاريخنا المعاصر..
**
لا يخفى على أحد أنني كنت من أوائل من قادوا وحثوا الناس على مسيرات ترفض القتل والعنف الذي يجري في حوران..
كنا إذ ذاك في مدينة الرمثا الحدودية حراكا شعبيا يضم لفيفا من عدة تيارات إسلامية وقومية وشيوعية وشعبية، لم يتخلف أي منها عن مسيراتنا تلك، حتى من باتوا يعرفون لاحقا بـ"أصدقاء سورية"..
ذات مسيرة، همس في أذني أحد اليساريين: "لسنا ضد حق الشعب السوري في تقرير مصيره، لكن غدا سترى الدبابات الأمريكية كيف تدخل درعا عبر الرمثا ولا أحد منا يقدر حينها أن يحرك ساكنا" !
أردف قائلا: "سيتم تهجير المواطنين السوريين، ثم ستفتح لهم مخيمات لجوء، وسيتم إذلالهم والمتاجرة بهم وبقضيتهم وتدمر الدولة السورية، إنها مؤامرة لمصلحة الكيان الصهيوني"..
حينها أجبته بأنني سأكون أول من يتصدى لتلك الدبابات إن هي دخلت، كما أنني أحرض الناس اليوم على التظاهر رفضا لسفك الدماء..
وفي خلجات نفسي لم أعر كبير قدر لكلامه عن اللجوء ومآلاته..
لاحقا غدا كل ما قيل لي واقعا يُرى، وقد أيقنت في قرارة نفسي أننا كنا ضحية تضليل إعلامي عبث بمكنوننا العاطفي والإنساني..
لا عزاء لنا ولا عذر، إلا أننا نسلي أنفسنا بأننا لم نبتع بالدم السوري شيئا، فلم نقبض بالدولار ولا بغيره، كنا وما زلنا مناصرين لمطالب الشعوب المحقة، رافضين لأي تدخل خارجي في شؤون أمتنا الداخلية..