الكثير من الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة لها قدرة فائقة على التعبير عن المواقف التي يواجهها الأفراد والجماعات مهما كانت غريبة أو صادمة. فهي تغطي كل المناسبات والمواقف، كما أنها حاضرة في أحاديثنا وتفاعلاتنا وخطابنا السياسي والديني والثقافي. البعض يستطيع الحديث لساعات معتمدا على الأحاديث والحكم والأمثال والأقوال المأثورة والموروثة بدون الحاجة الى تحليل الواقع والبحث عن الشواهد والعلل والمشاكل والهموم والحاجات والانشغالات، فيجد من يستمع اليه ويستوعب ما يقول بدون أي حاجة الى شواهد وبراهين ومهارات للالقاء والاتصال والتأثير، فكلها في النصوص التي أعاد الخطيب تلاوتها.
رجال الدين والشيوخ كانوا وما يزالون يجترون بعض النصوص لخطب ألقيت قبل مئات وعشرات السنين بدون إضافة كلمة واحدة وبدون تغيير في الوقفات ونغمة الصوت أو درجة الانفعال. والساسة يلجؤون أحيانا الى البحث عن اقتباسات وأقوال وردت في خطابات تاريخية لأسلافهم أو لمشاهير ممن تركوا أثرا تجاوز حدود الزمان والمكان.
في الولايات المتحدة، ما تزال خطابات جورج واشنطن وإبراهام لنكولن وولدرو ويلسون وروزفلت وكيندي ونيكسون وريغان المخزون الاستراتيجي التي يعمل خبراء ومعدو خطب الرؤساء على مراجعتها والاستعارة منها في كل مرة يكلفون بها لإعداد خطاب جديد لسيد من سادة البيت الأبيض.
في الثقافة العربية حيث الالتزام بالتقاليد الصارمة وقواعد المجاملة التي تمنع الأفراد والجماعات من التعبير الحر عن شعورهم ومواقفهم مما يجري في محيطهم، تأتي الأمثال والأقوال المأثورة لتسعف الأفراد، ففي استخدامها إشباع لرغبة التعبير وتحرير للفرد من مسؤولية اختراق الممنوعات والخروج على قواعد السلوك.
المثل القائل "عرس عند جيران" يعبر بوضوح وبدقة عن الحالة التي تعتري الأفراد وهم يطالعون ما يجري حولهم بدون مشاركتهم في الأقوال أو الأفعال أو أي وجه من وجوه التعبير. اختفاء مظاهر التعبير العلني لا يلغي انشغال الأفراد والجماعات بالحدث أو توقفهم عن البحث والمتابعة والتحليل، بل يكشف حالة التناقض بين ما يظهره الفرد وما يبطنه وبين الخطابة والواقع والمواقف المعلنة والمواقف الحقيقية.
الأزمة التي يواجهها الإعلام العربي الرسمي تأتي من أنه يقدم خطابا لفظيا مزخرفا بالأقوال والتعبيرات والمشاعر التي لا تسندها الأفعال ولا تعكس الواقع، الأمر الذي يضعف مصداقية الخطاب ويدفع الأفراد والجماعات للبحث عن مصادر أخرى أكثر واقعية وصدقا.
في الكتب المدرسية وأحاديث المختصين للطلبة والجماهير، يجري توصيف الخطاب الإعلامي على أنه خلاصة الممارسات التي تقوم بها الدول والجماعات ويجري نقلها بعد صياغتها في مضامين هادفة للجمهور عبر وسائل الإعلام. الصورة الرومانسية للخطاب الإعلامي تتجنب الإشارة الى أن الكثير من الأقوال التي ترد في الخطاب الإعلامي تتناقض مع الأفعال أو تتعمد عرض مقتطفات مما يجري وإهمال أخرى من أجل إحداث التغيير المرغوب في الجمهور المتلقي بدون اكتراث كبير للحقيقة والرسالة والأهداف التي يجري الحديث عنها عند توصيف المؤسسات الإعلامية ومهنة الصحافة لمن لا يعرف الكثير عما يجري في مسارحها الخلفية وفي مكاتب التحرير وغرف الأخبار.
استمرار الاعتقاد لدى البعض بأن على الإعلام أن يعرض الحقيقة المجردة مطلب قد يصعب الوصول اليه في ضوء تعدد المتغيرات والمرجعيات والقوى التي تتحكم في الخطاب وتؤثر على عمليات إنتاجه وصياغته وإخراجه ونقله. في ضوء ذلك، فإن الخطاب الإعلامي اليوم لا يعكس بدقة الممارسات الاجتماعية بما فيها من أقوال وأفعال وقيم وتجاوزات بقدر ما يعبر عن خلاصة ما يجري الاتفاق عليه من قبل أصحاب المصالح والمتنفذين مع مجموعة العاملين في المهنة في محاولة للموازنة بين القوانين والقواعد المهنية والأخلاقية وتوقعات الجمهور من ناحية وإرضاء الممولين وأصحاب السلطة والمصالح من جهة أخرى. (الغد)