العفو العام إمتياز أم تعويض؟
سيف زياد الجنيدي
18-10-2018 07:20 PM
بدأت مساعي مجلس النّواب لسن قانون عفوٍ عامٍ منذ تاريخ 20 حزيران 2018م، وذلك بتقديم إلتماسٍ نيابيّ بمذكرةٍ موقّعةٍ من سبعين نائباً مُطالبين الحكومة من خلالها بإعداد مشروع قانونٍ للعفو العام ودفعه إلى مجلس الأمّة للسّير بالقنوات الدستوريّة اللازمة لسنّه، وتناولت حينها الموضوع بمقالٍ نشر عبر إحدى المواقع الإخباريّة الإلكترونيّة ساعياً إلى إيصال رسالةٍ بأنّ مثل هذا الإلتماس النيابيّ فاقدٌ للوصف الدستوريّ، ولا يُمكن إعتباره نقطة الإنطلاق الأولى للعملية التشريعيّة من الناحية الدستوريّة.
بين تأييدٍ ومعارضةٍ لسن قانون عفوٍ عامٍ لا بُدّ من الوقوف على بعض الحقائق حول طبيعة هذه الصّلاحية الدستوريّة ومبرّرات اللجوء إليها، وقراءتها في ضوء السّياقات الحاضرة كافةً؛ القانونيّة منها والإجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة.
إبتداءً، تُعتبر صلاحية سن قانون عفوٍ عامٍ من صميم الإختصاص التشريعيّ للبرلمان، وتكمن فلسفته الدستوريّة في مبدأ سيادة الأمّة الذي يكفل عدم تطبيق أيّة قاعدةٍ قانونيّةٍ إلّا بعد إقرارها من قبل مُمثلي الشّعب، وبالتّالي من يملك الإختصاص في إسباغ التّجريم يستطيع إنتزاعه عند إرتكاب الفعل المُنشئ له خلال فترة زمنيّةٍ محدّدة شريطة الموازنة بين الإعتبارات اللازمة للحفاظ على إستقرار المجتمع.
وباستعراض الدّساتير العالميّة نجد بأنها أجمعت على تبني هذا المبدأ وسلّمت به باعتباره حقّاً طبيعيّاً للبرلمان. ومن نافلة القول الإشارة إلى الدستور التونسيّ لسنة 2014م أي دستور ما بعد الثورة، الذي إعتبر العفو العام من القوانين العاديّة وليس من القوانين الأساسية متّجهاً بذلك نحو تبسيط الشّروط اللازمة لإقراره.
تكمن أبرز المُغالطات الرّائجة حول العفو العام بتجاهله حقوق المتضرّرين أو الضحايا وإعتباره مزّيةً للجناة؛ وبهذا الصّدد أؤكّد بأنّ العفو العام بحد ذاته لا يُعتبر إمتيازاً لأولئك، بل إنّ الإشكالية إن وجدت تكمن في مدى التّطبيق السّليم والتّرجمة الفعليّة لفكرة مبدأ العفو العام وليست في المبدأ ذاته، وبمدى المُوازنة الحقّة بين ثلاثة أطراف العلاقة الجُناة أو المُشتكى عليهم، والمتضرّرين، والحق العام.
تتجلى أبرز الحقائق التي تستدعي وتلزم سن قانون عفو عامٍ بتلك الإختلالات التي تعتري المنظومة القانونيّة سواءً من ناحية الخروج المُتكرّر وغير المألوف عن القواعد العامّة في التّجريم بشكلٍ يتنافى مع قرينة البراءة الدستوريّة من جهةٍ، وتوسيع نطاق التّجريم بصورةٍ تخلّ بمضامين الحقوق الواردة في الدستور والقانون الدوليّ لحقوق الإنسان، والتي تشكّل بمجملها حاجةً ماسةً لسن قانون عفوٍ عامٍ لجسر هذه الفجوات التي تتسع يوماً تلو الآخر.
يُضاف إلى هذا كلّه التساؤل حول مدى توفّر عدالة ناجزة بعناصرها المُتداخلة والمُترابطة التي ترمي إلى كفالة الحق في محاكمة عادلة، وتوفّر نظام مساعدة قانونيّة وطنيّ فعّال يكفل بشكلٍ جديّ حق الدّفاع المُقدّس، ومدى القدرة على تأهيل نزلاء مراكز الإصلاح والتّأهيل وضمان عدم إنتقال فيروس العدوى الجرميّة وتصدير الإجرام، خصوصاً في ظل تنامي ظاهرة إكتظاظ مراكز الإصلاح والتّأهيل.
ومن الأهمية بمكان أيضاً الوقوف على السّياقات الإجتماعيّة والإقتصاديّة في هذا الإطار، خصوصاً مع توجّه السّياسة العامّة للدّولة نحو الإصلاح وإعادة التّاهيل، وذلك بتبني مبدأ بدائل التّوقيف والعقوبات المُجتمعيّة لدرء المواطنين عن إرتياد سبيل ظلام الإجرام. مع أخذ التّكلفة الإقتصاديّة لنزلاء مراكز الإصلاح والتّأهيل بعين الإعتبار خصوصاً في ظل المالية العامّة للدولة، حيث تقدّر كلفة النّزيل الواحد شهريّاً بقرابة سبعمائة دينار أردنيّ وفق التّقديرات الرسميّة المُعلنة مؤخراً. علاوةً على تعطّل القوى العاملة التي تعتبر عنصر الإنتاج الأول، وضمان إحتياج الأسر من بعدهم.
في ضوء السّياقات المُشار إليها نقر بأنّ سن قانون عفوٍ عامٍ أضحى ضرورةً وطنيّةً تفرض ذاتها، وطوق نجاةٍ للكثير من المُواطنين وأسرهم، ليس بإعتباره إمتيازاً بل تعويضاً مشروعاً وربّما بمثابة حق.