على هامش عنجرة (1): فصل الخريف
م. أشرف غسان مقطش
17-10-2018 10:38 AM
يخبرني صوت ما في قرارة نفسي أن "شيئا" ما موجود في عنجرة فقط، ليس في أي مكان آخر. أحاول أن أعرف ما هو، لكنني لم أستطع ذلك حتى اللحظة، مثلي مثل ذاك الإنسان الذي يتفقد نفسه وهو يهم بالخروج من منزله، ولسان حاله يقول: أشعر بأنني نسيت "شيئا" ما.
لربما لم ينس "شيئا" هو، ولربما ليس موجودا "الشيء" الذي يخبرني عنه الصوت، لكنني في كل مرة أغادر فيها عنجرة، أشعر بأن "شيئا" ما يدعوني للبحث عنه هنا في عنجرة فقط، ليس قي أي مكان آخر، رغم أنني أجهل هذا "الشيء".
فهل يكون هذا "الشيء" موجودا فيما بين السطور القادمة التي امتلأت بكلمات خطتها أناملي في كل مرة أهم فيها بمغادرة عنجرة؟ لربما يكون موجودا، وربما لا يكون موجودا، وما أدرانا؟
قلما تجد حاكورة أو كرما في عنجرة بدون شجرة زيتون واحدة على الأقل، ذلك أن للزيتون مكانة خاصة لدى العنجراوي تفوق مكانة أي شجرة أخرى.
فشجرة الزيتون تجسد للعنجراوي السلام الذي تنعم به عنجرة، وتفسر له معنى الحياة، وتكشف له سرا من أسرار الوجود، وتذكره مرارا بأن موعده الأخير في هذه الدنيا سيكون مع الأرض التي يمشي عليها.
فهي الشجرة التي يبدأ أهالي عنجرة بقطف ثمرها الزيتون منذ إطلالة قمر الحصادين حتى أولى أيام المربعانية، فيخللون جزءا منه بالماء والملح مع الليمون والفلفل، ليضعونه فيما بعد على موائد طعامهم، ويعصرون البقية منه، ليحصلوا على أكسير حياتهم: زيت الزيتون.
وزيت الزيتون هذا لا يستغني عنه أبناء عنجرة كمادة رئيسية في وجباتهم الغذائية. فهم يضعونه جنبا إلى جنب مع الزعتر على مائدة الطعام، ويحفظون به اللبنة، والمقدوس، والفلفل المحشي. ويصبونه فوق الفرفحينة واللبن والمريس في نيسان تحديدا، وفوق الفول والحمص صباح الجمعة بخاصة. ويضيفونه إلى مختلف أنواع السلطات، وأهمها سلطة العلت، وسلطة البندورة والبصل التي تشتهر بها موائد عنجرة.
وزيت الزيتون هذا كان الملاذ الآمن للمرأة العنجراوية إذا أرادت حماية شعرها، وبشرتها. ولربما ما زال كذلك بالنسبة إلى بعض نساء عنجرة.
وكانت المرأة العنجراوية قديما تصنع من زيت الزيتون الصابون البلدي. وربما لغاية الآن ما زالت تفعل ذلك.
وهو الوصفة الطبية التي كان العنجراوي يلتزم بها إذا تكورت حصوة في إحدى كليتيه، أو شعر بالإمساك قد لزمه.
و"الشرقية" في عنجرة ليست إحدى مشتقات المصدر "شرق"، وليست ريحا شديدة تهب وحسب، إنما هي احتفالية الأرض بعيد الهالوين الخاص بها، حين يتوشح وجهها بأوراق الأشجار المتساقطة، فيصطبغ أحد خديها بالأصفر، والآخر بالأحمر، أما جبينها فلا لون يليق به في عنجرة إلا الأخضر: رمز الحياة.
"الشرقية" في عنجرة طقس تشريني تخشع فيه الطبيعة لجلال دوي الريح، وتشعل فيه أول شعلة للمدافئ بمختلف أنواعها وأشكالها، وعلى رأسها: الفوجيكا الحمراء، وصوبة البواري. الشرقية في عنجرة عودة بعد إفتراق ربيعي وفراق صيفي إلى فتة العدس، والمجدرة بنوعيها: البيضاء والحمراء، والمشوط، وشوربة العدس، والفريكة، والمفتول، والملفوف المحشي، والمسخن.
"الشرقية" في عنجرة "كنكنة" الناس في بيوتها لمراجعة دقيقة مع الذات، ومناجاة خفية للطبيعة، برفقة كأس من الشاي الساخن بالميرمية.
ولفصل الشتاء على هامش عنجرة مقال آخر.