لم يتكلف الخبر عناء ذكر اسميهما ، بل اكتفى بذكر عمريهما ، 12 14و عاما ، قضيا مثل الاوطان في بلادنا ، بحادث سير ، هكذا دون سرد ودون ادنى احترام لحقوق البشر الذي نحتفل الان برفع اسمنا من قائمته السوداء ، هكذا جرى بث خبر دهس طفلين ووفاتهما وهما يبيعان الترمس على اتوستراد الزرقاء من سائق قام بتسليم نفسه للسلطات ، خبر بريء وحيادي والسبب قلة الانارة على الشارع الرئيس.
الطفلان ليسا شديدي الثراء لكي نعلن عن رثاء رفيع لهما او لكي ننصب مناحة وطنية على روحيهما الطاهرة وربما نعلن عن جائزة باسميهما وتسمية شوارع وانفاق باسميهما ، تخيلوا لا نعرف عنهما اية معلومة سوى عمريهما وانهما ابنا عمومة وانهما انضما الى قائمة الضحايا المسجلين تحت بند الوفاة الخطأ او حوادث قتل بسيطة.
في ستينيات القرن الماضي كتب الشهيد غسان كنفاني قصة قصيرة بعنوان "موت السرير رقم "12 وحملت القصة اسم مجموعته القصصية ، كانت القصة تتحدث عن انسان لظروف خاصة قضت على فرصة زواجه ممن يحب نظرا لتشابه اسمه مع اسم شقي ، فاصبح يصر على ان اسمه محمد علي اكبر وهكذا حتى داهمه المرض ودخل المستشفى وحين مات قالت الممرضة: مات سرير رقم 12 ، فقد اسمه وحياته وذكرياته وحمل رقما طائشا او عابرا لسرير في مستشفى ، الان وبعد كل هذه السنوات يفقد طفلان حياتهما واحلامهما ومستقبلا ربما يبتسم لهم لاحقا كما ابتسم لكثيرين غيرهما ممن باعوا الترمس في طفولتهم وصاروا نكرات الا من ارقام بلهاء تدعى سنوات العمر.
لن اسأل عن حق الجمهور في المعرفة ولا عن واجب الصحافة في الكشف والمتابعة ولكن اسأل المجتمع كله والاعلام كله عن شرط الضمير هذا الشرط الغائب في معظم سلوكياتنا؟ ساسأل عن العدالة والقيمة الانسانية فقط في الموت ، فمن حق الضحايا ان تحظى بجثامين وقبور متساوية في طريقهما الى الله ، ومن حق الضحية ان تجيب عن اسئلة تتعلق باسباب الموت.
في الحرب الاهلية في بيروت كانت عجوز بجوار جثة لشاب في مقتبل العمر تبكي ، فسألها على ما اذكر ابو علي شاهين الاسير الذي اصبح وزيرا ، "إبنك يا خالة" فأجابت لا اعرفه ولكن ابكي نيابة عن امه واخواته ، فهو له ام واخوات وكنّ سيبكين بحرقة عليه.
نحن الان مجتمع وامة نحتاج من يبكي علينا بالانابة او بالوكالة فهذا الدمع الانساني في جوهره فقدنا القدرة على ادارته ربما بحكم شح المياه في بلدنا وعلينا ان ننتظر مياه الديسي كي تمدنا بالدمع لكي نبكي على حالنا وعلى حال اطفالنا الذين نتركهم فريسة للفقدان احياء او للوفاة تحت عجلات السيارات.
ارثي لحالنا كيف بتنا نجّل الانسان بناء على شهادة بنكية ، او على منصب حكومي ، وصارت القيمة مجرد رقم في رصيد بنكي او لقب يسبق الاسم ، نرثي الطفلين بما يليق بهما من جنان تنتظرهما فهما من احباب الله وماتا شهيدي لقمة عيش باتت قاسية وصعبة ، وبات اطفال كثر ينتظرون عطلة المدارس لكي يقفوا على ارصفة الشوارع او في ورش العمل لكي يسندوا اسرهم ، اطفال في العمر ولكنهم كهول في المنطق والسلوك.
لطفلي الوفاة البسيطة الرحمة ولاهلهما خالص العزاء على امل ان يستيقظ ضميرنا يوما ونبكي على طفولة ضاعت تحت عجلات السيارات الفارهة وغير الفارهة.
omarkallab@yahoo.com