المجتمع الأردني وبالرغم من القصور الفخمة والسيارات الفارهة والدرجات العلمية والابداعات التي تغطي مختلف الحقول مجتمع قبلي بامتياز. ففي افراحنا واتراحنا وانتخاباتنا نهجر قصورنا إلى خيم نقيمها في الساحات ونختار من يمثلنا في المجالس النيابية والبلدية على أسس عشائرية ونقيم ولائمنا في بيوت الشعر أو الخيم التي استوردناها. على شاكلتها وتوزع المواقع السياسية والادارية على أسس قبلية الأمر الذي جعلنا نعيش كالحضر ونفكر ونشعر ونتصرف كقبائل.
ما أن يشار إلى أحد أبناء قبيلتنا بالفساد او يقترب منه القانون حتى تتداعى القبيلة صغارها وكبارها إلى الخيام التي يتم نصبها للإعلان عن إعادة تشكيل القبيلة وشحنها للوقوف في وجه أي اتهام لابنها واستعدادها للقيام بكل ما في وسعها لحمايته.
ما يزال الأردنيون مختلفين على ماهية الفساد ونوعية الأفعال والسلوكيات التي تقع ضمن المفهوم. البعض يرى أن الخروج على قواعد السلوك والقوانين واخلاق الوظيفة والتعامل فسادا في حين يرى البعض الآخر في اشكال الخروج على القوانين والقواعد التي تحكم الادوار والعلاقات بانه قوة وقيادة وفروسية.
النظرة المزدوجة للفساد باعتباره خروجا عن التشريعات والقيم والاخلاق التي تحكم المؤسسات الحديثة تارة وعلى اعتباره عملا بطوليا يقوم من خلاله الفرسان والابطال بالاستيلاء على اموال وممتلكات الغير ويقومون بضمها الى ممتلكات العشيرة هي التي تفسر تبرير أو تبرئة المجتمع لفعل الفساد عندما يكون الفاعل شخصا من الأقارب والمعارف وادانة الفعل عندما يكون مرتكبه شخصا أو أشخاصا غير معروفين لديهم. ففي الحالة الأولى يعتبر الفاسد فارسا وبطلا استطاع الاستيلاء على مال الغير وفي الاخرى ينظر له باعتباره مجرما يستحق العقوبة.
في تاريخنا العربي كان الفارس بطلا يجيد القتال ويتحلى بالشجاعة والكرم ويغزو القبائل الاخرى ويستبيح أموالهم ونساءهم وقد ظلت هذه الصورة في أذهاننا بالرغم من خروجنا من نمط البداوة والرعي ودخولنا إلى الحياة الحضرية حيث القانون والحقوق والواجبات والمساواة بين الافراد.
في اللاوعي العربي بقيت صورة الفارس الشجاع الذي يخلص الجماعة ويحقق رغباتها صورة رومنسية تغري البعض وتشجعهم على استباحة المؤسسات والأستيلاء على المال العام وواضعين مقدرات المؤسسة في خدمة عشائرهم واقربائهم واصدقائهم غير آبهين بالقوانين والانظمة والتعليمات التي تحكم العمل. الواسطة والمحسوبية وتوزيع الامتيازات على المقربين بعض من الممارسات التي يصفها المنتفعون بالرجولة وقوة الشخصية في حين يوصف الامتثال بانه جبن وخوف.
لا يكاد يمضي أسبوع دون أن تثار قضية فساد هنا أو هناك. حول كل قضية ينقسم المجتمع بين من ينادي بضبط الفاسدين ومحاسبتهم وايقاع أشد العقوبات بهم وبين من ينكر وجود الفساد فيما أرتكب من أعمال والتنطح لتبرئة المتهمين والدفاع عنهم باعتبارهم نماذج للنظافة ويتهمون من يتحدث عن فسادهم باغتيال الشخصية. الجهات الرسمية تقف مواقف محايدة وتكتفي بانها احالت الموضوع إلى القضاء وتثق بانه سيحقق العدالة. غالبية القضايا التي تثار تشغل المجتمع لأيام ثم ما تلبث أن تختفي دون معرفة مصيرها أو التأكد فيما إذا تمت ادانة من اتهم أو تبرئتهم.
الحديث عن الفساد وأخبار انتشاره لم تعد تدهش الكثيرين، حيث أصبحت القصص مألوفة ومتشابهة. ومواقف الجماعات من كل قصة معروفة سلفا. فأسرة المتهم واقرباؤه واصدقاؤه ومعارفه وجيرانه يقيمون المهرجانات للدفاع عن سمعته وتبرئته في حين يتولى الإعلام غير الرسمي الاشارات الخجولة والمحسوبة إلى الحادثة أو الحوادث تارة بالتصريح واخرى بالتلميح فيما يتحدث الإعلام الرسمي عن الموضوع بلغة دبلوماسية حذرة تاركا للجمهور فرصة تعبئة الفراغ في المعلومات حول الموضوع.
في الحالات التي تتباين فيها الأفكار والقيم والاخلاق وتتنوع فيها الجماعات يحتاج المجتمع الى قوانين تنظم شؤون الافراد والجماعات وتحدد بوضوح الممنوع والمسموح وتضع عقوبات رادعة لكافة اوجه التعدي والخروج على القوانين والحقوق وتوكل تنفيذ ذلك لاجهزة الرقابة والضبط المدربة والقادرة على تنفيذ مهامها بسرعة ومهنية واحتراف وتحرص في كل الأوضاع والمناسبات على أن تكون شفافة وعادلة وصارمة يهابها الجميع ولا تميز أو تخضع لضغوط من أي جهة كانت. بدون ذلك سنبقى نمارس الفساد وندينه في نفس الوقت.
(الغد)