ينطوي هذا السؤال على دلالات مركبة تحتاج الى دراسات عميقة، لكن هذا ليس مكانها بالطبع، اريد فقط ان اشير الى مسألتين : الاولى ان التحولات التي طرأت على الشخصية الاردنية لم تكن مفاجئة، فقد تعرضت هذه الشخصية على مدى الخمسين عاما لتحولات مختلفة، لكنها حافظت نسبيا على سماتها الرئيسة، الان يبدو ان هذه التحولات «انفجرت» لدرجة لا نكاد نصدقها، وربما يكون ما نشاهد من صور في مجتمعنا افضل دليل على ذلك.
أما المسألة الثانية فتتعلق بـ»خزان» دراسة هذه الشخصية، وهو تاريخنا الذي لم نكتبه حتى الان كما يجب، مما فوت علينا فرصة قراءة شخصيتنا الاردنية بصورة صحيحة، واغرقنا بالتالي في محيط من التوقعات والهواجس، ان لم اقل الاخطاء ايضا.
لكي نعرف ما حدث للاردنيين وما يمكن ان يحدث لمجتمعنا في المستقبل نحتاج الى فهم سمات الشخصية الاردنية وتحولاتها في العقود الماضية، هنا يمكن يمكن ان نرصد ثلاثة معايير قد تساعدنا في فك شيفرة هذه الشخصية : اولاها معيار التطور التاريخي لتشكل الهوية الاردنية، وثانيها الظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاكمة لنشوئها وتطورها، ثالثها التراث الاردني الشفوي والمكتوب بما يتضمنه من امثال ولهجات ومصطلحات ونتاج فكري وأدبي وفني.
هذا، بالطبع يحتاج الى بحث طويل، ومع ذلك فان ابرز ما يميز الشخصية الاردنية انها بسيطة ومعقدة في آن، متساهلة وصعبة معاً، بطيئة التحول وسريعة الألفة، مسالمة في طبيعتها، خجولة في التعبير عن نفسها. متصالحة مع غيرها لديها مقاومة للترويض وحدة في المواجهة ونزوع الى الشدة حين تشعر بالتهديد، او ينتابها الاحباط، غالباً ما تصغي الى صوت وجدانها، وتنحاز الى ضميرها، تواجه العواصف بهدوء، وتعاند دفاعاً عن وجودها وحقوقها، وتتجلد بالصبر على مشكلاتها.
الشخصية الاردنية ليست انعزالية، تميل الى التآنس، متجاورة ومتحاورة، تكره الفهلوة، وذات ابعاد افقية مرئية ومفتوحة، مزاجها صوفي، لها امزجة متعددة ولكنها شفافة غالباً، لها انفاس حارة ولكنها تنمّ عن دفء لا عن حرق ، تهرب من المظاهر الى الجوهر، ذات فراسة خارقة، حائرة ومرتبكة احياناً، ولكنها تعرف ماذا تريد، حيرتها نوع من القلق الذي تفجره هواجس الخوف من القتامة او السكون، سواء بفعل الجغرافيا او بفعل السياسة، القلق الذي قد ينتج فاعلية افضل للحركة نحو الامام.
الشخصية الاردنية ضد الانعزالية وضد التجريح، متعالية لكنها ليست استعلائية، منفتحة احيانا لكنها غير قابلة للذوبان، منقبضة وحزينة احيانا اخرى لكنها متصالحة مع الفرح المقنن، واقعية، تغلب عليها القسوة مع الذات، والسماحة مع الآخر، لا تألف السكون ولكنها قانعة، تبحث عن الجديد مع انها تخشاه، متدينة، غير مجاملة، منضبطة وغير مغامرة، تخفي اكثر مما تظهر، تتقن المفاجأة، لها تضاريس مركبة يصعب تفكيك طبقاتها، وبلا أبعاد مكانية ايضا.
في الشخصية الاردنية ثمة قطاعات عديدة تتمازج احياناً، وتتقاطع احياناً اخرى: قطاع احترام البطل وتمجيده، قطاع الحلم المسكون بهواجس العقلانية، قطاع الكرامة المتجذر في الاعماق، قطاع التدين المتصالح احياناً مع الواقع، قطاع الخصوصية المتماهية مع محيطها الانساني والحضاري.. ولكل قطاع بصمة ما في هذه الشخصية. لغز يكمن فيها، قوة تحركها وتستفزها.. سلوكيات مفهومة وغير مفهومة.أخيراً، الشخصية الاردنية خصبة، جدية، متمرسة على سلوك الوعر، غير منقادة، واعية، متماسكة، ذات روح متعالية وحساسة، متحررة من مثبطاتها، ما تزال تمتع بصحتها الانفعالية..
وتحافظ على قيمها العالية.
هل تعاني الشخصية الاردنية من بعض السلبيات، نعم، ولكن هذا ليس مجالها.. هل تحتاج الى تحليل اوسع؟ نعم، وهو في ذمة علماء الاجتماع و النفس - وما اكثرهم - في بلادنا.
الدستور