شائعات لإطفاء بصر وبصيرة المجتمع
د. ماهر عربيات
09-10-2018 12:00 PM
أثناء الحرب العالمية الثانية، تمكنت بريطانيا من صناعة رادار ذات تقنية عالية، لرصد الطائرات الألمانية، ونجح الإنجليز في إسقاط أعداد كبيرة من الطائرات الألمانية. وللتمويه والتضليل العسكري ابتدعوا إشاعة نُشرت في الصحف ووسائل الإعلام، مضمونها أن الجنود كانوا يتناولون كميات كبيرة من الجزر، مما ضاعف من قوة بصرهم، وتمكنهم من رؤية الطائرات الألمانية من مسافات بعيدة ومن ثم إسقاطها.
تلك الكذبة ذاعت وشاعت، وانتشرت العبارة الشهيرة التي تقول أن الجزر يقوي النظر، وتوارثتها الشعوب ومازالت قائمة حتى يومنا هذا. رغم أن الجزر لا علاقة له بتقوية البصر لا من قريب أو بعيد.
اكذب حتى يصدقك الناس، عبارة شهيرة أطلقها الألماني جوزيف غوبلز وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر، لكن ما جعل مقولته أكثر فاعلية في عصرنا الراهن، هو ظهور الإعلام الجديد الذي أسهم بشكل كبير في ذيوع الشائعات.
في كل حين هناك أخبار مثيرة للجدل، وفيديوهات جديدة تطرحها وسائل الإعلام الجديد، لتشغل الرأي العام، قبل أن يكتشف المواطنون بأنها لا تمت للحقيقة بصلة، من خلال عناصر تعزف وتغني وفق هواها، ووفق مصالحها أو مصالح مموليها، غايتها تضليل الشارع الأردني، وإطفاء بصر وبصيرة المجتمع، وتمييع العمل العام.
الإشاعة كلمة بسيطة، لكن محتواها كفيل بالهلاك إن استحكمت ووثق الناس بها، وهي تكبر مثل كرة الثلج، وللأسف تحظى باستجابة وقبول من الشباب بصفة خاصة، وغالبا ما يكون استخدامها بدافع الإختيال والإدعاء والتبجح والتباهي، وتحمل في طياتها الكثير من الجوانب السلبية، وعلى رأسها فقدان الثقة بين أفراد المجتمع، وانتشار الفوضى، واستساغة الكذب والزور والبهتان.
كيل التهم والإشاعات، ظهر مع ظهور الإعلام الجديد وتنوع منصاته، فباتت المنافسة على السبق ذريعة لنشر الإشاعة، فضلا عن إسهام مواقع التواصل الإجتماعي في ذيوعها، بهذا المنطق يكاد يستعصي العلاج، فتصبح الوقاية السبيل الوحيد للحد من الإشاعة.
تندرج الإشاعة السلبية حسب القانون في إطار جرائم الشتم والقذف، وهنا يتطلب الأمر مسائلة الفاعل متى انكشفت وتأكدت هويته، لكنه أمر غالبا لا يتحقق. وتوفير مزيد من الضوابط القانونية ذات العلاقة، بات ضرورة من أجل تخليق العمل الإعلامي، فالتأنيب والملامة لا يكفيان للحد من ممارسة يصفها كثيرون بتنفير عموم الأردنيين من العمل في الشأن العام.
وسائل الإعلام تلك التي صنفت تقليدية، ظلت وهي تطور أدواتها سيدة المشهد الإعلامي، وقابضة على الأداء المهني في التعاطي مع المعلومة، من حيث التدقيق في مصادرها، والتزام ما تمليه أخلاقيات المهنة، بيد أنه ومع استثناءات لا يمكن تجاهلها، أصبح الفاعلون ضمن الإعلام الجديد، لا يقيمون وزنا للأخلاقيات التي تحكم الممارسة الإعلامية، فتجدهم وقد بات كثيرون منهم يعتبرون أنفسهم إعلاميين، ينشرون الشائعة والأنباء الكاذبة والزائفة، ويتقنون إلباسها عباءة الحقيقة، منهم من يتعمدون ذلك، وكثير منهم يفعلون وهم لا يعلمون.
نحن نواجه حالة من التربص والإرتياب وسوء الظن، وغياب المهنية، واستثمار سجية المواطنين وفطرتهم، رغبة في الظهور والإنتشار بين الناس، والتكسب حتى وإن كان على حساب الحقيقة.
خطورة الشائعات على النسيج المجتمعي، تدفعنا إلى توخي الحذر، ودق ناقوس الخطر، وينبغي علينا أن ندرك بأن نسبة الحقيقة في الإشاعة ضئيلة جدا في بعض الأحيان، وفي بعضها الآخر معدومة، وبينهما تباين واسع وكبير، تماما مثل البون الشاسع ما بين الجزر وقوة النظر.