كنت على موعد لقضاء سهرة مع مجموعة من الصديقات. قدت سيارتي باتجاه المقهى الواقع على بعد عشرين كيلومترا من مكان سكني! عشرون كيلومترا لأن (قعدته حلوة) حسب تعبيرهن! أوقفت السيارة أمام المكان وبقيت جالسة في مكاني بانتظار عامل الڤاليه. كانت أم كلثوم تروي العروق التي تحد صدري من جهة القلب، عندما شيعت سيدة رأسها داخل نافذة السيارة. كانت طويلة، سمراء، ترتدي ثوبا طويلا بألوان مبهجة، وكانت تخفي جزءا من شعرها بوشاح مهيب. لم أنهرها، واكتفيت بسؤالها عن حاجتها.
- لولا الصدفة، لما ظفرت بسماع أم كلثوم الآن.
- هل أعرفك؟
- الناس يا.. ما اسمك؟
- لارا.
- وأنا سراب، الناس يا لارا تخدعهم المظاهر، فيضيعون الحقيقة. في أعماقك عاطفة محيرة وحزن لا مبرر له على الرغم من ملامح الفرح الطارئة التي قد تبدو على وجهك بين الحين والآخر.
- أنت عرافة؟
- ضحكت، ثم قالت: وهل تصدقين بوجود العرافات؟
- لا أقرأ الأبراج ولا حتى من باب التسلية، فكيف لي أن أصدق؟
- لم سألت إذن؟
- سؤالي غبي، فعلا.. سامحيني!
- لكل امرئ من اسمه نصيب، ألا تصدقين هذا أيضا؟
- لا.
- أنا أفعل، ولك من اسمك نصيب. وبنظرة مدروسة أردفت على الفور، وجوابا على سؤالك الذي يدور في ذهنك الآن، لا، لا أعرف معنى اسمك. ولا، هي نصيبك من اسمك.
الثقة التي تحدثت بها قلما تتحلى بها امرأة، بل لا تحوزها امرأة عادية.
حضر عامل الڤاليه الذي كان يقود سيارة مرسيدس حديثة سوداء، ناولها مفتاح السيارة المرسيدس وناولني ورقة سيارتي. هممت بالدخول.
- سوف أذهب، صديقاتي بانتظاري، بعد إذنك.
- ردت بإيماءة تشبه الإبتسامة: إحداهن، ضيفة ثقيلة الظل، لا تعيريها اهتماما.
- بتحفظ قلت، طيب. فرصة سعيدة.
- بالمناسبة، إن وصفك أحدهم بالبومة، لا تستغربي.
- بومة! ... لعله خير.
- لعله خير، قالتها وابتسمت بشفتيها الملونتين بطلاء أحمر داكن. واستقلت سيارتها وغادرت.
الطريقة التي أفصحت عنها ملامح وجهها، أظهرت لي مدى اقتناعها فيما قالت. وتلك كانت واحدة من المحادثات النادرة جدا التي لم أشعر فيها برغبة بخنق محدثي!
دخلت إلى المقهى، وكن يجلسن على المقاعد حول طاولة مجمعة توسطت المكان. سلمت على الجميع من بعيد فقد استحالت الحركة من بين المقاعد لضيق المساحة. اتخذت مكاني الذي تركته لي إحداهن فارغا إلى جانبها. تحدثنا قليلا ثم علا صوتها: لارا، بالمناسبة معنا ضيفة، فلانة صديقة فلانة.
أعتقد أن ذهولا من نوع أحمق كان طاغيا على وجهي لدى سماعي لتلك الجملة، إلا أنني تناسيت الموضوع وقلت بابتسامة قصيرة: أهلا.
- بادلتني الضيفة ال (أهلا)، وأردفت، أعتقد أننا تقابلنا من قبل.
- قلت: لا أذكر بصراحة.
- اتسعت عيناها وارتفع حاجباها وقالت: أنا متأكدة.
- ربما، وأهلا مرة ثانية على كل، والتفت إلى النادل الذي كان يقف بجانبي مثل تمثال في متحف.
- لكزتني صديقتي، وقالت: ولك جامليها قليلا!
- لا أعرفها فعلا ولا أذكر أننا تقابلنا، بماذا أجاملها؟
- ولا واحدة منهن تعرفها، ومع ذلك فقد جاملنها!
- لا أرغب في العيش داخل هذا المستنقع!
- بدهشة ردت: أي مستنقع هذا الذي تتحدثين عنه ؟
- مستنقع المجاملات يا شاطرة!
ضحكت وقالت: بومة!
- طيب!
كان لافتا أنها -الضيفة- تحاول افتعال أي حديث مع الأخريات، لكنها كانت تنظر بحذر بين فينة واُخرى إلى صديقتي كلما همت بالحديث.
- همست لي صديقتي بجانبي عندما تأكدت من انشغال الجميع بالحديث: لم ترق لي.. أن تراها تضحك، قد تكون معجزة، فهي دائمة الجدية. أجزم بأنها ستكون عجوزا صلفة عندما تكبر. وضحكت بصوت عال.
- من؟
- أنت!
- لم أفهم!
- ضيفتنا قالت ذلك عنك لفلانة عندما علمت بقدومك.
- لطيف!
أحضر النادل فنجان قهوة وعلبة ماء صغيرة، وضعهما أمامي وبقي واقفا! أظنه كان مستمتعا بالأحاديث الجانبية التي كانت تدور على الطاولة.
- في شي؟ هل ستطيل المكوث إلى جانبي؟ قلت.
- آسف، قال وهم بالمغادرة، قبل أن تناديه الضيفة.
- أريد فنجانا من القهوة، لو سمحت.
- كيف تحبينها؟
- مثل قهوتها وأشارت إلي، أنا أيضا أحب القهوة سادة، قالت، وأردفت مباشرة يجب أن نلتقي مرة أخرى. ضروري.
- أكيد، قلت بابتسامة مصطنعة.
في هذي الحياة ثمة لحظات يشعر فيها المرء بانقياده إلى فعل ما من دون روية، وثمة أمور تحدث يشعر معها أنه يعيش في مستنقع. وثمة متع كثيرة في أحاديث النساء أقلها ادعاء الدهشة. وثمة اختلاف يصعب تحديده بين ما يسمى بالصدفة وما يحدث عن سابق تدبير. وثمة فرق كبير بين أن تكون صلفا وأن تكون جديا بالمناسبة!