من السذاجة والجهل إنكار حجم التراجع الملحوظ في شعبية الرئيس والحكومة، خلال المائة يوم، في استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية، بل ببساطة يمكن القول بأنّنا أمام "هبوط مروّع"، ما يعكس حجم الضغوط الشديدة التي تعمل تحتها الحكومة، وهي تحاول أن تجد مخارج من الأزمات المالية من دون الوقوع في صدام مع الشارع، أقلّ ما يوصف به أنّه "محتقن"، من دون إسناد حقيقي من النخب السياسية التي إما معادية للحكومة، أو تقف على الحياد.
مشروع ضريبة الدخل كان أحد أبرز الأسباب التي خسفت شعبية الحكومة، ولولا أنّ الرئيس كان يمتلك مخزوناً شعبياً معقولاً في رصيده، ولولا أنّ مؤسسات الدولة عملت من وراء الستار بقوة لعبور اللحظة، لكان مصير الحكومة في مهبّ الريح اليوم، لذلك كان الرصيد الشعبي العالي مفتاحاّ ذهبياً لتجاوز المنعطف الخطير.
ما يؤمل أن يكون هذا هو النزيف الأكبر للرصيد، وأن يعود الرئيس ومعه الفريق الحكومي لملئه من جديد، بالرجوع إلى مسار إعادة بناء الثقة مع الشارع وتقديم الرؤية الإصلاحية المطلوبة من جهة، والإيفاء بالوعود المنتظرة، وفي مقدمتها إصلاح سياسي جوهري عبر قانوني انتخاب وأحزاب جديدين، والبدء بعملية خفض ضريبة المبيعات بالتدرّج، وتحسين ملحوظ على الخدمات العامة خلال الفترة القادمة، وتقديم مقاربة مقنعة لمكافحة الفساد بعد إقرار التعديلات المقدّمة على قانون الكسب غير المشروع وتعزيز صلاحيات هيئة النزاهة، وأخيراً وليس آخراً معالجة التهرب الضريبي بصرامة وقوة، بما يقنع المواطن بأنّ إجراءات حماية المال العام أصبحت أكثر قوة وصلابة.
هذه معالم رئيسة من مشروع الحكومة خلال المرحلة القادمة، ومهمّاتها المنتظرة وقد أصبحت واضحة، بانتظار خطّة تنفيذها (مشروع النهضة الوطني) بعد خطاب العرش السامي في الدورة العادية لمجلس النواب المتوقّع أن تُعقد في منتصف الشهر الحالي.
الآن عيون كثير من المراقبين تتجه إلى التعديل الحكومي المرتقب، والمتوقع خلال الأيام المقبلة، وهو تعديل – إذا كنّا نريد أن نتجنب سقف توقعات خاطئا شبيها بما سبق- لن يكون استثنائياً أو مدهشاً، لسبب بسيط أنّ أي حكومة اليوم تأتي خارج سياق التنافس الحزبي والسياسي، ولا تستند إلى أغلبية برلمانية وكوادر سياسية وحزبية ستعتمد أولاً وأخيراً على قدرة الرئيس بالتعاون مع الفريق الذي يعمل معه على اختيار الوزراء على قاعدة الكفاءة، مع مراعاة التوزيع الجغرافي- الاجتماعي، وهي مسألة مرتبطة بمعايير فردية، لا سياسية واضحة.
لم نصل بعد إلى مرحلة يكون فيها أمين عام الوزارة هو الوزير الحقيقي التكنوقراطي بينما الوزراء يمثّلون الحزب أو التحالف الحزبي، فمثل هذا النوع من الحكومات يتطلب بنية تحتية حقيقية، ليس فقط على صعيد الأحزاب والقوى السياسية، بل أيضاً البناء الإداري داخل الدولة، وإعادة تعريف دور الأمين العام ومهماته والوزير كذلك.
حتى لو فرضنا جدلاً أنّ الرئيس مطالب بإشراك الأحزاب السياسية؛ فأيّ أحزاب؟! وما هي قاعدة الاختيار؟! كما أنّ هنالك اليوم قوى اجتماعية وسياسية قوية ليست مؤطرة حزبياً، لا يمكن استبعادها، وهكذا تصبح عملية التشكيل أكثر تعقيداً وتشابكاً، والحل الوحيد لها: تعبيد الطريق نحو انتخابات نيابية قادمة، تستند إلى قانون انتخاب تقدمي، يفضي إلى نوع جديد من الحكومات البرلمانية.
أمّا في الوضع الحالي فما يمكن أن يقوم به الرئيس هو اختيار شخصيات على درجة من الكفاءة والمهنية تشكّل معه فريقاً متجانساً لتنفيذ المهمات المعلنة والخطة الإصلاحية الطموحة ويكون واضحاً تماماً أنّ إحدى أبرز مهمات هذه الحكومة تجهيز البنية التحتية الأساسية للوصول إلى حكومة برلمانية.
الغد