الموت في مستشفيات الحكومة
د. موسى برهومة
15-06-2009 04:42 AM
قبل أن يقوم بجولاته المفاجئة إلى المستشفيات بحثا عن وسائد مفقودة وشراشف اختفت من المخازن، كان أولى بوزير الصحة أن يجري تفتيشا ميدانيا مكثفا للكشف عن أهلية المستشفيات الحكومية وقدرتها على إشفاء المعتلين وإبراء المرضى.
وما دامت الشراشف والمناشف والوسائد أهم من أرواح البشر، فلسوف نكون منذورين للموت كلما عطس أحدنا وقادته الأقدار إلى مستشفى البشير أو مستشفى الأمير حمزة أو سواهما من المستشفيات الحكومية التي آن الأوان لفتح ملفها وكشف حجم البؤس الذي تعاني منه.
هل أحدثكم عن دينا عبد العال التي كانت تتزين لعرسها المرتقب قبل أن تنزف دماءها نتيجة عدم تشخيص الحالة الطبية لها من قبل الأطباء المختصين في مستشفيي البشير وحمزة؟
أم أحدثكم عن ريم إبراهيم حامد داود التي كاد خطأ طبي أن يؤدي إلى إزهاق روحها في "البشير" قبل عامين عندما أجريت لها عملية قيصرية نسي معها الأطباء كومة من الشاش في بطنها؟ أم أحدثكم عن السيدة المصرية التي دخلت لتنجب الحياة في أحد أقسام الولادة في مستشفى حكومي وخرجت ووليدها بلا حياة ملفوفة بشاش موتى لم يستر عورتها؟
ولو أنني مضيت أحدثكم لملأت الصحيفة بالحكايا التي لديكم الكثير الكثير الكثير منها، فكل واحد منا لديه ما يكفي من الوقائع التي تثبت ترهل الواقع الصحي الحكومي وعدم ارتقائه إلى المستوى الذي يكون فيه ملاذا للفقراء والمتعبين والذين لا يملكون من وعثاء الحياة إلا الحياة، وليتها تدوم بعد زيارة المستشفى!
ولا يكفي أن نذكر حالات أجريت لها عمليات صعبة في مستشفيات الحكومة ونجحت نجاحا مبهرا، أو أن نبرر التقصير بحجم المراجعين الذين يهطلون على الأطباء في المشافي الحكومية ولا يستطيع الكادر أن يغطي كل هذه الأعداد، ما يوقع الخطأ والموت. فأرواح الناس ليست بضاعة مشحونة في حافلات يحسب التجار هامشا ضئيلا لتلفها.
إذا كانت النظرة هكذا، وأعتقد أنها لا تفترق كثيرا عن ذلك، فتلك مصيبة وجريمة كبرى لا تغتفر.
وإذا كانت أرواح البشر تقاس بهذا المعيار النسبي الذي يشيّئ النفوس، ولا يذرف دمعة على وفاة عروس قبل زفافها بأسبوع، فإننا مقبلون على زمان بشع لا رأفة فيه.
الحياة أعز قيم الوجود، والمحافظة عليها وصيانتها سمة الحضارة والتمدن التي أفنى الإنسان خبراته وحكمته واختراعاته من أجل الارتقاء بها. وإذا أضحت هذه القيم الكبرى عرضة للتآكل، كما ينبئنا بذلك حال أغلب المستشفيات الحكومية في المملكة، فإننا نكون كالمنبتّ الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
ستتشكل لجنة تحقيق للنظر في قضية دينا، كما تشكلت لجنة التحقيق في موت السيدة عهود العام 1998 والتي قدم والدها شكوى لرئيس المجلس القضائي في العام 2005 ليتساءل عن سبب "طول وبطء الإجراءات في القضية"!!
ولو أن إجراءات التقاضي سارت بسرعة الضوء في قضية دينا وجرى إدانة المتسببين في موتها بالسجن (من 6 أشهر إلى 3 سنوات)، وقضت المحكمة بالتعويض، فإن ذويها سيتقاضون مبلغا سقفه الأعلى 30 ألف دينار، وفق اقتراح مسودة مشروع قانون المساءلة الطبية، وهو مبلغ يشير إلى القيمة الحقيقية للإنسان إذا وافقت الجهات المعنية والمتنازعة على اعتماده، ولم تخفضه إلى بضعة آلاف أو فنجان قهوة سادة.
m.barhouma@alghad.jo
** الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الغد ..