التعليم العام والعالي .. أرث مأساوي
د. فرحان عليمات
30-09-2018 01:07 PM
لا تختزل المنظومة التعليمية في أي بلد بجهة واحدة دون غيرها ' فالتعليم عملية تشاركية وتكاملية بين جهات عدة وأهمها مرحلة التعليم الأساسي ، فلا يمكن أبدا ربط حالة التعليم العالي في الأردن بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي فقط، إذ إن مخرجات التعليم العالي هي نتاج لمراحل التعليم العام التي ظهرت أعراض مرضه قبل عشرين عاما تقريبا، عندما تم صرف ملايين الدنانير على شراء أجهزة حاسوب لمدارس تفتقر إلى الكهرباء والماء، فكان ذلك على حساب البيئة التعليمية الملائمة، مثل اكتظاظ الصفوف وقلة المدارس، وغياب المتطلبات الضرورية للعملية التعليمية والتربوية، و رافق ذلك تشريعات بالغت في حقوق طلبة المدارس و قضت على هيبة المعلم و المدرسة، مما أدّى إلى تقاعس المعلمين في أداء واجبهم بالشكل الصحيح، وعدم التحاق الكفاءات من حملة الشهادات الجامعية بسلك التربية والتعليم لشعورهم بالغبن والظلم الذي لحق المعلم من الناحية المادية والمعنوية.
إن التعليم عبارة عن دائرة تبدأ بنقطة وتعود إليها، فإذا كانت البداية غير صائبة وموفقة؛ فبالتأكيد ما سيبنى عليها سيكون غير صائب وموفق، فقد كان إدخال الحواسيب ومن ثم شبكة الأنترنت إلى المدارس متسرعا وبغير وقته، ولم يراع التدرج وتوفر البيئة الملائمة والآمنه، ورافق ذلك التسرع فقدان العديد من الجهات المعنية كالمدرسة والاسرة دورها في التوجيه والسيطرة على التلاميذ، فكان نتاج ذلك عدم إجادة 100 الف من طلبة المدارس في السنوات الثلاث الأولى قراءة حروف اللغة العربية أو الأنجليزية أو مهارات الحاسوب حسب ما أعلن وزير التربية الأسبق د محمد ذنيبات ،وسبق ذلك كله في عقد التسعينيات عودة الآلاف من الطلبة الاردنيين من الكويت وهذا ما شكل خللًا في المنظومة التعليمية التربوية من جهة عدم القدرة على استيعاب العدد الكبير من الطلبة، ومن جهة أخرى اختلاف المنظومة التعليمية والثقافية للطلبة العائدين.
لا شك أن جيل الحاسوب من عام 2002 أي من الصف الأول الابتدائي حتّى الثانوية العامة واستمرار السياسة التعليمية والتربوية ذاتها على الأجيال اللاحقة يشكّل مخرجات التعليم العالي الآن، فمن كان تلميذًا في الثانوية العامّة عام 2005 أصبح الآن مُعلمًا في وزارة التربية والتعليم.
في الأنتقال للمحطة الأخيرة وهي محطة التعليم العالي نراه وقع في أمرين خطيرين أولهما: عدم القدرة على استيعاب الواقع الجديد لجيل الحاسوب والانترنت الذي قلص كثيرا من دور المعلم والمدرسة والأسرة في تنشئته بسبب المبالغة في الحقوق الممنوحة له على حساب مؤسسات التنشئة الاجتماعية ، يضاف إلى ذلك التدفق التكنولوجي والمعلوماتي غير الموجه ، ولذلك فقد التعليم الجامعي الرؤية في التعامل مع هذا الجيل، أمّا الأمر الثاني فكان غياب واضح لوجود استراتيجية تعنى بالتعليم العالي؛ فكان الإغراق في تأسيس جامعات حكومية وخاصة، تُعاني حكوميتها من ارتفاع مديونيتها ، وخاصتها تهدف للربح والاستثمار وتستقطب الطلبة الأقل تحصيلًا، وغياب أسس القبول العادلة في الجامعات وكثرة برامج الموازي، وعززت الدولة التعليم الأكاديمي، وأحبطت التعليم التقني والمهني الذي يحتاجه الوطن ولم تقدم له الأمتيازات التي تشجع على الانخراط به، ورافق ذلك كثرة التشريعات والتعديلات الناظمة لواقع التعليم العالي، وتعيين أساتذة وقيادات جامعية غير كفؤة وعدم ربط أهم مؤسسة معنية بالتعليم العالي وهي هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي بوازرة التعليم العالي والبحث العلمي .
في المحصلة سيستمر واقع التعليم العالي على هذه الحالة لفترة ليست قصيرة، وستظل مخرجات السنين الماضية تُلقي بظلالها على الدولة والمجتمع الأردني ،وأن الأمر يتطلب تفعيل الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية 2025/2016، إذ إنها جاءت كاملة ومتكاملة، ويبقى تنفيذها على أرض الواقع هو المهم ولعل وزارة التعليم العالي بدأت بتنفيذ ما يخصها في تلك الاستراتيجية و كذلك إعادة أولويات الأنفاق بما يضمن بيئة تعليمية مناسبة، فلا أحد منّا ضد التكنولوجيا الحديثة بشرط أن تؤتي ثمارها بشكل صحيح وان ما ينفق عليها تكون غايته سليمة وبريئة، واعادة الهيبة للمعلم ماديا ومعنويا فلا أحد ضد الكرامة الإنسانية وحق الطالب في الاحترام، لكن علينا ان نقدم حق المعلم، فالجيل الذي بنى الدولة الأردنية لم يسلم أحدٌ منه من توبيخ او ضرب مُعلم له.