ذات يوم، وقبل سنوات، تحدثت أمام جلالة الملك في واشنطن بحضور الملكة، وكنا مجموعة نجلس معه، في مقر اقامته، بعد ان التقى الرئيس الاميركي باراك اباما، ومعنا رئيس الوزراء آنذاك عون الخصاونة، وعدد من المسؤولين، اننا في الاردن بحاجة الى ترميم الروح الجمعية، وتوحيدها، واعادة جمع شظاياها.
يومها وفي كلام استمع اليه باهتمام، استزدت من التنظير، وقلت ان الدول ثلاثة انواع، اما دولة رفاه، يتمتع سكانها بالثراء والموارد، ونحن لسنا كذلك، واما دولة لديها عدو حقيقي او يتم اختراعه، من اجل رص صفوف الداخل، وتوحيد البنية الداخلية امام هدف، هو مواجهة هذا العدو، وهذا العدو قد يكون حقيقيا وقد يكون وهميا، ويتم الاستثمار في العداوة، من اجل البنية الداخلية، وتوحيدها على قلب رجل واحد، ونحن لسنا كذلك، والنوع الثالث، دول يكون لديها مشروع وطني عام، يتوحد فيه الجميع، تحت شعار او عنوان او هدف، كأن نقول اننا في الاردن سنزرع مليوني شجرة عام 2020 او اننا سنقضي على البطالة عام 2019 او اننا سنعيد انتاج مواردنا الداخلية الاقتصادية، لنكون اكثر ازدهارا عام 2018 مثلا، والمشاريع هنا، متعددة، وقد اقترحت يومها، ان يكون لدينا مشروعنا الوطني طويل المدى او سنويا، حتى لاينفرط عقد المجتمع وينتثر في الهواء.
توزع النقاش يومها، وتم سؤالي اذا ما كان لدي فكرة لمشروع وطني، واعتذرت عن الجواب، لانني لا استطيع الاجابة في لحظة على سؤال هام من هذا المستوى، وذهبت القصة حيث ذهبت؟
حين ننظر الى الاردن عام 2018 نشعر بهذه الخطورة على البلد، حين نرى الهوية الجمعية والروح الجمعية لدى كثيرين، قد تشظت فعلا، الى اجزاء اصغر، فالكل غاضب، والكل يواجه الكل، والمواطن يواجه المواطن، والمواطن يواجه الحكومات، والحكومات تواجه المواطن، والافق مسدود، وكأن الكثير منا مجرد مجموعات سكانية موزعة، تخرج صباحا للعمل في وظائف، راتبها لايكفي لدفع اجرة الطريق وثمن السجائر وفاتورة الموبايل، وهذا نمط يقول ان الموظف ينفق على صاحب رب العمل حتى يديم عمله، وهؤلاء جميعا بلا هدف ولا امل في هذه الحياة، فلا الوظائف ذات فائدة، والعامل والعاطل عن العمل يتساويان، والذي يريد ان يدرس في الجامعة يتسول اهلُه رسومه، والذي يريد ان يتزوج لا يتزوج، والكل مدين، والحكومات تواصل جباية المال، والعائلات تتعرض الى انهيارات اجتماعية، والجريمة ترتفع، والبنية الاجتماعية-الاقتصادية تتشظى بطريقة مرعبة، لا ينفع معها التعامي ولا التذاكي.
كيف يمكن رد الروح الى الناس؟ وكأن هناك حالة ترك لهم، ولقضاياهم، فلا نسمع كثيرا عن محاولة لانقاذ كثير من القطاعات، وبقية القطاعات أغلبها متروكة للتراجع، فأين هم اصحاب القرار من قطاعات كانت في احسن احوالها، ومضربا للمثل، فإذا بها تهترئ وتتراجع تدريجيا، جراء غياب الصيانة والادامة، ليتحول الاردن من نموذج حيوي على مستوى الانسان، وقطاعاته، وخططه، الى نموذج لبلد يخسر كل مزاياه تدريجيا، على المستوى العام والفردي، ويتفرج عليه الكل، دون ادنى محاولة لمنع هذه التراجعات؟.
من حقنا ان نطلب اليوم، ان يكون لدينا مشروعنا الوطني ينتفع منه الكل والفرد، فمن نحن والى اين نذهب، وهل هذه حياة طبيعية، ان نأكل وننام، دون نتيجة او هدف او غاية او شعور بالرضا او المسرة او الانجاز، هل هذه حالة طبيعية ان لايعرف الناس لماذا يعيشون، وهل ينجزون شيئا في حياتهم؟!.
لو خرج اي مسؤول وتأمل وجوه الناس بين السادسة والثامنة صباحا،وهم يشربون القهوة ويدخنون بشراهة، لقرأ وجه الاردن الحقيقي، وجوه عابسة متعبة مهمومة، وكل واحد يدرك فيهم، انه يشتري الوقت، ويدرك ان مشكلته الاصعب تأتي بعد مرحلته تلك، فطالب الجامعة المهموم على رسومه، يدرك ان مشكلته تبدأ بعد تخرجه، والموظف الجديد يدرك ان مشكلته تبدأ بعد عمله، وهكذا.
الروح المعنوية منخفضة، ونحن بحاجة الى من يجمع شظايانا، ويرمم روحنا الجمعية، وطنيا وانسانيا، نحن بحاجة الى ان نعرف من نحن، وماهو مشروعنا الفردي والجمعي في هذه الحياة، وبدون ذلك، نكون قد تفرقت بنا السبل، من اسرة كبيرة متماسكة لها قواعدها وقوانينها الانسانية، وطموحاتها وامالها، الى مجرد مجاميع سكانية، محبطة وتشعر بالتهديد والقلق وغياب المستقبل، ولاشك ابدا هنا، ان هذا هو دور الدولة الاول، اي الابوية بمعناها الانساني، الذي يرد الروح الى حياة الناس.
الدستور