لم تكن احتجاجات المحافظات امام الوزراء الذين ذهبوا لمناقشة قانون الضريبة مسألة عابرة، فقد كشفت بوضوح ان هناك ازمة ثقة عميقة بين الناس وحكوماتهم ومؤسساتهم، وهو الامر الذي التقطه رئيس الوزراء واعلنه اكثر من مرة.
استعادة بناء هذه الثقة يحتاج - بالطبع - الى وقت طويل، لكن من المهم ان نبدأ خطوات في هذا الطريق، ليس بالكلام والوعود وانما بالمقررات والسياسات، والمسألة وان كانت صعبة الا انها ليست مستحيلة، يكفي فقط ان نفتح ملفات الفاسدين الكبار، نوقف «دربكة» التعيينات بالواسطة والمحسوبية ، نقرر بحسم انه لا احد فوق القانون، يكفي ايضا ان نلجم حركة ماكينة استفزاز الناس بتصريحات عاجلة او بضرائب مجهولة النسب ،ثم نضع حدا لحالة الغموض والصراع التي تدور على انقاض تماسك مجتمعنا واستقراره.
لا بأس ان نفتح ذاكرتنا ونتساءل (بدون ادعاء اي حكمة متأخرة ) : لماذا لم تصدق الجماهير العربية التي احتشدت قبل سنوات في الشوارع و «الميادين» وعود السلطة بالاصلاح والتغيير، لماذا لا يطمئن الناس في بلداننا العربية الى بيانات «الاصلاح» ووعود حكوماتهم وسجالات نخبهم بضرورة طي صفحة الامس وفتح صفحة جديدة.
الجواب باختصار: لأنهم فقدوا الثقة، فقدوها بعد أن جربوا على مدى سنوات طويلة كيف أطلقت الحكومات ابواقها لكي تبشرهم بالاصلاح وبالحرية وبالاستقرار، ولكي تطمئنهم على سلامة الانتخابات ونزاهتها، وعلى جدية المقررات والاجراءات لمحاسبة الفاسدين ومحاصرتهم، وكيف انتظروا طويلا طويلا الساعة التي تدق فيها بزوغ دولة القانون والمؤسسات ونهاية عقد الاستحواذ على السلطة والمال، وسقوط منطق الظلم والتعسف والاستهتار.. لكنهم - للأسف - اكتشفوا ان كل هذه الوعود مجرد «أوهام» وان الحكومات - متى قبضت على السلطة - تنصلت من كل وعودها، وامسكت بعصاها الغليظة، وتحولت الى «ماكنة» ثقيلة لا علاقة لها بهموم المجتمع ولا بقضاياه واحتياجاته.
الشباب الذين خرجوا قبل سنوات في عواصمنا العربية للاحتجاج والمطالبة بالتغيير والاصلاح قالوا آنذاك بصراحة لكل المسؤولين الذين دعوهم لفك اعتصامهم بذريعة ان مطالبهم قد تحققت ولكل الحكماء الذين ناشدوهم بالعودة الى بيوتهم حفاظا على الاستقرار، ولكل الذين اتهموهم بالعناد والعبثية، قالوا لهم: نحن لا نثق بكم، لقد جربناكم سنوات طويلة، جربنا رهانكم على صبرنا، جربنا التفافكم على مطالبنا، جربنا أساليب الخداع والمراوغة التي كنتم تتصورون انها انطلقت علينا.. ولا وقت لدينا الآن لنجربكم مرة اخرى.
اخطر ما يمكن ان يصل اليه الناس هو فقدان الثقة : فقدانها بنخبهم ودعواتها، وبالحكومات ووعودها، وبقطار الاصلاح وحركة عجلاته والسكة التي يسير عليها، ففي هذه اللحظة بالذات تسقط معادلة حسابات الخسارة، وتتراجع رهانات الاعتماد على صبر الناس وتناقضاتهم الاجتماعية، وعلى قدرة الاحزاب والنخب على ضبط الايقاع، وتصبح الحكومات وجهاً لوجه أمام قوى جديدة مجهولة بلا رأس، ولا اجندات محددة، ولا سقوف معتبرة، تريد ان تحقق احلامها حتى لو كانت مستحيلة.
باختصار، لا اصلاح بدون ثقة، ولا ثقة بدون تغيير حقيقي يلتقط اللحظة ويحولها الى واقع وممارسة، لا مجرد وعود وكلام، واذا كان الاصلاح مع وجود الثقة في توقيت ما خيارا متاحا فان تأخيره او المماطلة فيه يدفع الى خيارات اخرى غير مأمونة وغير متوقعة، هذا ما لم تدركه بالطبع بعض الحكومات التي تواجه غضب الشباب في شوارعها، لكنه ما زال ممكنا للذين استبقوا الحدث باتجاه الاصلاح، الاصلاح الذي يعوزه المزيد من الثقة والاحترام.. والاختبار ايضا..
الدستور